آخر تحديث: 3 / 5 / 2024م - 1:36 ص

الفقر في العرفان

جاء في كتاب المقامات العرفانية [1] : ان الفقر مقام آخر من المقامات العرفانية التي يلزم على السالك التحقق بها للوصول إلى كماله المطلوب.

تعريف الفقر

الفقر في اللغة هو عدم الحيازة والمسكنة وفي الاصطلاح العرفاني هو صفة للعبد؛ قال تعالى في كتابه المجيد: ﴿أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [2] .

فالفقير في المسلك العرفاني هو الذي يدرك افتقاره إلى خالقه ومعبوده ويصير فانياً فيه، ويرى كل الأوصاف حتى وجوده مرهونة بلطف معبوده وعنايته. وعليه، فالفقير في مذهب العرفان هو المخالف لكل فكر أو نظر يشير إلى الإنية أو قدرة غير الحق تعالى.

الإمام الخميني «قُدس سره» يعتبر الفقر مقابلاً للغنى ويقول أن الغنى من الأوصاف الكمالية للموجود بما هو موجود، ولذا فهو من الصفات الذاتية للحق تعالى. ولما لم يكن أحد غنياً حقيقياً امام الحق المقدس جل جلاله، الغني بذاته، كانت الموجودات كلها من أدناها وهو التراب إلى ذروة الأفلاك، ومن الهيولى الأولى إلى الجبروت الأعلى فقيرة ومحتاجة، والفقير لا يرضى بحقيقة غير حضرة المحبوب والجمال المطلق ويرى جميع القدرات وحوادث عالم الوجود في يد قاهر حكيم كما يرى نفسه مقهورة أيضاً لقدرة الله، فيصل إلى مقام الفناء الذي هو عين البقاء ويصير مصداقاً لحديث قرب النوافل.

ومن هنا يتضح كلام النبي الخاتم ﷺ: الفقر فخري ويتبين أنه لا تنافي بين الفقر وامتلاك الثروة المادية، فكثير من الفقراء أثرياء وكثير ممن لا يملكون الثروة ليسوا فقراء في الحقيقة.

والإمام يصرح بأن امتلاك الثروة المادية لا يوجب الغنى النفساني بل يمكن القول أن من لا يملك الغنى النفساني يزداد حرصاً واحتياجاً كلما ازداد مالاً ومنالاً: ”فالأثرياء هم فقراء في مظهر الأغنياء ومحتاجون في زي من لا يحتاج“. *ويقول «قُدس سره» أيضاً: كلما ركل السالك بقدميه التعلق بالدنيا؛ وحول وجهة قلبه نحو الغني المطلق وأمن بالفقر الذاتي للموجودات وعرف بأن أحداً من الكائنات لا يملك من نفسه شيئا وأن لا قدرة ولا عزة ولا سلطنة إلا في حضرة الحق المقدسة، وسمع بأذن قلبه النداء الملكوتي واللسان الغيبي: ﴿يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد [3]  عندها يستغني عن العالمين بحيث يبلغ مستوى استغنائه درجة لا يرى معها لملك سليمان أية قيمة.

ويقول ذو النون المصري: إن علامة غضب الله على العبد أن يكون خائفاً من الفقر. ومن هذا البيان ينبغي على السالك أن يكون طالباً للفقر وساعياً في اكتسابه.

ونختم كلامنا في تعريف الفقر بما قاله الخواجة عبد الله الأنصاري في هذا المجال: الفقر اسم للبراءة من رؤية الملكة، فالإنسان لكونه عبداً ومربوباً لا يملك حتى وجوده، فهو وما ينسب إليه لله.

وينقل شيخ الهرات قولاً لأمير المؤمنين في نهج البلاغة أنه: سمع رجلاً يقول إنا لله وإنا إليه راجعون، قال : إن قولنا إنا لله إقرار أنفسنا بالملك وقولنا: وإنا إليه راجعون إقرار أنفسنا بالهلك.

أقول:

لا شك ولا ريب ان ما يشير إليه أهل المعرفة «العرفانيون» بالنسبة للفقر ليس الفقر المادي بل الفقر بمعنى: ان يرى الانسان كل ما لديه هو من عند الله ولولا عناية الله ولطفه لما استطاع الانسان حتى ان يتنفس، وكما يشير العلماء ان الانسان في اللحظة الواحدة يتنفس 15 نفساً [4]  وقد ألف الانسان هذه النعمة فلا يستشعر عظمتها فكيف بباقي النعم والثروات. نعم نحن لا شيء بل أقل من لاشيء تحت الغني المطلق عز وجل ملك الملوك جبار السموات والأرض.

إن نبي الله سليمان بالرغم من ملكه العظيم إلا أنه يفتقر لغنى العلي العظيم بل لو لا لطف الله لما كان لديه هذا الملك العظيم. اذا نحن فقراء إليه ومحتاجين إليه بالأمس واليوم وغدا وحتى قيام الساعة.

فما قيمة الثروات بعد الموت؟! وما قيمة أعمالنا قبال نعمه وعطائه؟! وما هو حالنا عند الوقوف بين يديه وصحيفة الأعمال مدنسة بالذنوب.

نحن فقراء محتاجون إليك يا رب

[إلهِي قَلْبِي مَحْجُوبٌ، وَنَفْسِي مَعْيُوبٌ، وَعَقْلِي مَغْلُوبٌ، وَهُوَائِي غالِبٌ، وَطاعَتِي قَلِيلٌ، وَمَعْصِيَتِي كَثِيرٌ، وَلِسانِي مُقِرُّ بِالذُّنُوبِ، فَكَيْفَ حِيلَتِي يا سَتَّارَ العُيُوبِ، وَيا عَلامَ الغُيُوبِ، وَياكاشِفَ الكُرُوبِ، إِغْفِر ذُنُوبِي كُلَّها بِحُرْمَةِ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، يا غَفّارُ يا غَفّارُ يا غَفّارُ، بِرَحْمَتِكَ يا أرْحَمَ الرّاحِمِينَ] [5] .

ولو أدركنا هذه الحقيقة سلوكيا لعشنا أجواء السعادة. حيث ان الإنسان كثير القلق قال تعالى ﴿إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعا [6]  يقلق على النعم التي وُهبت له ويخاف من زوالها ولكن لو أدرك الإنسان حالة الفقر إلى الله واستحضرها دائما في نفسه وراى ان كل ما لديه هو لله وأنه محتاج إليه حيث إذا شاء عز وجل أخذ وإذا شاء أعطى لحكمة وعلل حينها يعيش الإنسان حالة التسليم والصبر والرضا والإيمان فيكون بذلك مستقر مطمئن.

[1]  المقامات العرفانية، ص 55 - 57، للكاتبة: السيدة فاطمة الطباطبائي، الطبعة الأولى، دار الولاء.
[2]  سورة فاطر - آية 15.
[3]  سورة فاطر - آية 15.
[4]  موسوعة المعرفة، ص163، طبعة: مكتبة جرير - 2020.
[5]  رواه البحار 87 / 339 ح 19 وفي ج 94 / 243 ح 11، عن كتاب الاختيار للسيّد ابن الباقي.
[6]  سورة المعارج - آية 19 - 20.