آخر تحديث: 3 / 5 / 2024م - 1:36 ص

المبالغة في العتاب

إن العلاقات الاجتماعية الصالحة وكثرة المحبين والصداقات الوفية لها دور أساس في سعادة الانسان في دار الدنيا والاخرة وان لها أثر كبير في مسيرته، وبلا شك ان من يحظى بالعلاقات الاجتماعية الصالحة وكثرة المحبين والصداقة الوفية يعيش جزء كبير من الراحة والسعادة وهذا الامر اثبتته التجارب واشارت اليه النصوص الشريفة فكما ورد عن أبي الحسن عندما سئل عن فضل عيش الدنيا، فقال: «سعة المنزل، وكثرة المحبيين» [1] . وهنالك نصوص تشير إلى الفوائد الاخروية من الصديق الصالح فقد روي عن الإمام الصادق أنَّه قال: «لقد عظمت منزلة الصديق حتى ان أهل النار يستغيثون به ويدعون في النار قبل القريب الحميم» [2]  وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا «عليه وعلى آبائه أفضل الصلاة والسلام» أنه قال: «من استفاد أخاً في الله استفاد بيتاً في الجنة» [3]  وجاء عن الإمام الباقر : «من استفاد أخا في الله على إيمان بالله ووفاء بإخائه طلبا لمرضاة الله فقد استفاد شعاعا من نور الله» [4]  وورد عن رسول الله ﷺ: «النظر إلى الأخ توده في الله عز وجل عبادة» [5]  وعنه ﷺ: «ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد فائدة الإسلام مثل أخ يستفيده في الله» [6] 

وهنالك دراسة استمرت لـ 75 سنة بجامعة هارفارد تكشف عن أهم سر للسعادة: حيث يقول روبرت فالدينجر، مدير دراسة هارفارد لتنمية الكبار،: الشيء الذي يفوق كل الأشياء الأخرى في الأهمية هو العلاقات الجيدة.

ويقول فالدينجر: ”إن أوضح رسالة نتلقاها من هذه الدراسة التي استمرت 75 سنة، هو أن العلاقات الجيدة هي التي تجعلنا بصحة حسنة وسعداء في الحياة“. [7] 

ومن خلال هذا كله يتضح ان العلاقات الجيدة والصداقات الوفية والمحبين نعم عظمية ينبغي المحافظة عليها وشكر الله عليها فخسرتها كبيرة وكما جاء الإمام علي : «من فقد أخا في الله فكأنما فقد أشرف أعضائه» [8] ،

والشكر ليس فقط باللسان وانما أيضا من خلال تقدير هذه النعم والمحافظة عليها.

ومن الأمور التي تساعد على حفظ العلاقات قائمة وسليمة ”العتاب“ والمراد من ذلك كما ذكر البعض ”العتاب الذي يكون بقدرٍ صغير، بشرط أن يكون الشخص مقلًا في عتابه وليس مبالغًا فيه، ومن أهم آداب العتاب التغاضي عن بعض أخطاء الصديق أثناء عتابه، وعدم إحراجه بالعتاب، وغضّ النظر عن بعض أفعاله، وتقديم النصيحة غير المباشرة له، وعدم الاستخفاف بالشخص المُعاتَب أو معاتبته أمام الآخرين، وأن يكون العتاب ليّنًا ليس فيه إساءة أو ذم أو تحقير، وعدم تكرار كلمات العتاب والمبالغة فيها، وعدم إعطاء الخطأ حجمًا أكبر من حجمه، وعدم إطلاق الأحكام القاسية أثناء العتاب، والحفاظ على مساحة الودّ، وعدم التفتيش عن الأخطاء المستورة أثناء المعاتبة، وعدم فضح الأسرار، وإيصال فكرة العتاب للآخرين بطريقة راقية ولطيفة دون غلو أو مبالغة، لأنّ طريقة العتاب تُعبر عن أخلاق الشخص“. [9] 

ويشير اختصاصي علم الاجتماع الأسري، الدكتور فتحي طعامنة:

إلى أن أفضل أنواع العتاب هي التي تكون بالتلميح وليس بالتصريح، لافتا إلى أن الأشخاص كثيري العتاب سيفقدون كل من حولهم، ويدمرون علاقاتهم الاجتماعية، من دون أن يعوا ذلك، وتصبح علاقتهم بغيرهم مقتصرة على الحد الأدنى من المجامل. [10] 

وورد عن الإمام علي : الإفراط في الملامة يشب نار اللجاجة. [11] 

- وعنه : إياك أن تكرر العتب، فإن ذلك يغري بالذنب، ويهون العتب. [12] 

- وعنه : لا تكثرن العتاب، فإنه يورث الضغينة، ويدعو إلى البغضاء. [13] 

- وعنه : كثرة العتاب تؤذن بالارتياب. [14] 

وكما يقال: «كثرة العتاب تبعد الأحباب»، «كثرة العتاب تشرد الأصحاب».

وقال أبو الطيب المتنبي:

إنّي لَأَجبُنُ مِن فِراقِ أحِبَّتي *** وتُحِسُّ نَفسي بِالحِمامِ فَأَشجَعُ [15] 
وَيَزيدُني غَضَبُ الأَعادي قَسوَةً *** ويُلِمُّ بي عَتبُ الصَديقِ فَأجزَعُ

وقال صفي الدين الحلي:

رُبَّ هَجرٍ مُوَلَّدٍ مِن عِتابِ *** وَمَلالٍ مُؤَكَّدٍ مِن كِتابِ
فَلِهَذا قَطَعتُ عَتبي وَكُتبي *** حَذَراً أَن أَرى الصُدودَ جَوابي
أَيُّها المُعرِضونَ عَنّا بِلا ذَنبٍ *** وَما كانَ هَجرُهُم في حِسابي
خاطِبونا وَلَو بِلَفظَةِ شَتمٍ *** وَهيَ عِندي مِنكُم كَفَصلِ الخِطابِ

وقال قيس بن الملوح:

تمنيت من أهوى فلما رأيته *** ذهلت فلم أملك لسانا ولا طرفا
وأطرقت اجلالا له ومهابة *** وحاولت إخفاء الذي بي فلا يخفى
وقد كان لي للعتاب دفاتر *** فلما التقينا ما نطقت ولا حرفا

ويقول بشار بن برد:

إِذا كنْتَ في كُلُّ الأمورِ معاتباً *** صديقَكَ لم تلقَ الَّذي لا تُعاتِبُهْ
فعشْ وَاحداً، أو صِلْ أَخاكَ فإنَّهُ *** مُقارفُ ذنبٍ مَرَّةً ومُجانِبهْ
وإِنْ أنتَ لَم تشربْ مراراً على القّذَى *** ظ َمئتَ وأيُّ النَّاسِ تَصفو مَشارِبُهْ

وقال سعيد بن حميد:

أقل عتابك فالبقاء قليل *** والدهر يعدل تارة ويميل
لم أبك من زمن ذممت صروفه *** إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمت مدة *** ولكل حال أقبلت تحويل

يقول: منصورٍ النميري العتاب:

أقلِلْ عِتابَ من استربتَ بودِّهِ*** لَيست تُنالُ مَودَّةٌ بعِتابِ

يقول الحسين البغدادي:

وعَلى قَدرِ عقلِهِ فاعتَبِ المرء*** وحاذِرْ برّاً يَصيرُ عُقوقا
كَم صَديقٍ بالعَتبِ صَارَ عَدوّاً*** وعدوٍّ بالحِلمِ صَارَ صَديقا

ويقول اختصاصي علم النفس، الدكتور منذر سويلمين:

”الأصل في الإنسان السوي أن يترفع عن صغائر الأمور“، وفق سويلمين، وأن لا يبالي بالأشياء الصغيرة، وأن يتصف بتقدير الآخرين. والتماس العذر لهم، والتسامح مع تصرفاتهم. [16] 

وتقول: الدكتورة أمينة محمود استشارى العلاقات الأسرية: إنه لكى يظل الخلاف فى حيز الاختلاف فى وجهات النظر ولا يتعدى الإطاحة بالعلاقة بأكملها، فلابد من مراعاة قاعدة مهمة فى العلاقات الاجتماعية تنطوى على عدم اللجوء إلى العتاب، إلا إذا اقتضى الأمر ذلك، ويتم ذلك بأسلوب راق يتمتع بكل قواعد اللياقة. [17] 

وتشير الدكتورة أمينة إلى أن هناك 10 أسس لفن العتاب:

1 - لا يكون العتاب إلا فى الأمور التى تحتمل ذلك وليس فى كل الأمور، اتساقا مع الحكمة التى تقول ”كثرة العتاب تورث البغضاء“.

2 - لا يتطرق العتاب إلى كل تفصيلات الحياة، بل يجب أن يكون الأمر محددا حتى لا يخرج العتاب من حيزه إلى حيز المشاجرة، ويستهدف أكثر النقاط المؤلمة للشخص المعاتب، على أن يتجاوز عن بعض السلبيات فى شخصية الطرف الآخر.

3 - يبدأ العتاب بالاستفسار عن الخطأ وإبداء حسن الظن والتماس الأعذار للغير.

4 - يعتمد نجاح العتاب على أسلوب المعاتب الذى يجب أن يكون بين اللين والشدة، وذلك حتى لا يأخذ العتاب شكلا من أشكال الدعابة والمزاح ويفقد الهدف منه أو يكون الأسلوب المستخدم غليظا عنيفا يوغر صدر من نعاتبه.

5 - انتقاء الألفاظ التى تعبر عن الرسالة المراد إبلاغها للطرف الآخر بدون أن تتضمن أى لفظ يستفز مشاعر الغير أو تجريحه.

6 - يجب الاهتمام بانتقاء الألفاظ الحانية فى الحوار لأن الهدف منه هو وصل الود وليس التعنيف.

7 - الحرص على مراعاة شعور الغير، حتى لا يتسلل إليه شعور بأنه واقف فى موقف الاتهام.

8 - مراعاة الهدوء فى النقاش والتحدث بصوت مناسب دون انفعال.

9 - يجب أن يبدأ العتاب بإيثار الطرف الآخر من خلال امتداح الصفات الجميلة فيه حتى إذا كانت قليلة، وذلك وفقا للحكمة القائلة ”امدح على قليل الصواب.. يكثر من الممدوح الصواب“.

10 - العتاب يكون بالقدر المناسب للموقف دون إفراط ولا تفريط. [18] 

[1]  مستدرك الوسائل - الميرزا النوري - ج 3 - الصفحة 451، الكافي 6:526|5، والمحاسن: 611|24.
[2]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 71، ص176.
[3]  وسائل الشيعة آل البيت «عليهم أفضل الصلاة والسلام»، الحر العاملي، ج 12، ص16.
[4]  ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 - الصفحة 40
[5]  نفس المصدر السابق
[6]  نفس المصدر السابق
[7]  دراسة استمرت لـ 75 سنة بهارفارد تكشف عن أهم سر للسعادة «alarabiya.net»
[8]  ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 1 - الصفحة 40
[9]  كثرة اللوم والعتاب من وجهة نظر نفسية - سطور «sotor.com»
[10]  كثرة العتاب ”تسيء“ للعلاقات الاجتماعية - جريدة الغد «alghad.com»
[11]  ميزان الحكمة - محمد الريشهري - ج 4 - الصفحة 2813
[12]  نفس المصدر السابق
[13]  نفس المصدر السابق
[14]  نفس المصدر السابق
[15]  الحمام: الموت
[16]  كثرة العتاب ”تسيء“ للعلاقات الاجتماعية - جريدة الغد «alghad.com»
[17]  10 قواعد لفن العتاب بين الأصدقاء - اليوم السابع «youm7.com»
[18]  10 قواعد لفن العتاب بين الأصدقاء - اليوم السابع «youm7.com»