آخر تحديث: 3 / 5 / 2024م - 5:45 م

نقد فكرة التعايش في المجتمع الأحسائي

محمد الحرز * صحيفة اليوم

هناك انطباع عام يكاد يصبح واحداً من البديهيات، التي ترسخت في أذهان الناس، في عموم البلاد.

هذا الانطباع يخص مسألة التعايش السلمي بين المذاهب، الذي حظيت به منطقة الأحساء على امتداد تاريخها المجيد.

هذه حقيقة أثبتها التاريخ، وهناك شواهد ومحطات تشير إلى هذا الأمر، ولا حاجة لنا هنا لتكرار ما هو مكرر على الألسنة.

لكني سأناقش هذه المسألة من منظور مختلف، ولأسباب لا تتعلق بدحض هذه المقولة المثبتة تاريخياً، ولا كذلك للتغني بأمجادها التاريخية لأجل إشباع رغبات نفسية واجتماعية فقط.

وهما سببان يحفزاني على طرحها:

الأول: ارتفاع وتيرة المقالات والتنويهات من هنا أو هناك، تلك التي تستعيد مسألة التعايش باعتبارها أنموذجاً تاريخياً ما زال مستمراً حاضرا بين الشرائح المتعددة للمجتمع الأحسائي.

الثاني: رغم ذلك فإن هذه الاستعادة لا تقترب من التفاصيل الكامنة خلف هذه المسألة، وهي تفاصيل أظن أنها جديرة بالطرح والمناقشة، لأنها بكل بساطة تقودنا إلى رؤية أزمة حاضر العلاقات الاجتماعية، وأثرها على حياة الناس في المدينة السعودية، وما ينتجه هذا الأثر من قيم تمس أزمة الخطاب الثقافي السعودي، من قبيل المواطنة والحقوق والأخلاق والتدين... إلخ.

الحاضر هو الذي يحكم رؤيتنا لأزماتنا وقضايانا لا الماضي. انطلاقاً من هذه المقولة الجوهرية في مناهج العلوم الإنسانية سأتناول مسألة التعايش كما يلي:

أولاً: ما مقياس التعايش، الذي تم الأخذ به كي يقال بحقيقة ما نذهب إليه عن التعايش المذهبي في الأحساء؟

بخصوص الموقف من مفهوم التعايش، هناك تصوران منه، الأول هو التصور الذي نجده مستخدماً عند أغلب الذين تحدثوا من جهة عن تاريخ سير الرجال العلماء والأدباء، من باحثين ومؤرخين كالعرب القدامى مثل ياقوت الحموي، ومن جهة أخرى عند الرحالة في مشاهداتهم أثناء مرورهم بالمنطقة كما هو الحال عند ناصر خسرو أو فيدل أو الرحالة الدمشقي مرتضى بن علوان، الذي مر على الأحساء في أوائل القرن الثامن عشر أيام إمارة بني خالد، وهو أحد المصادر المهمة، الذي كثيراً ما يستشهد به عند الحديث عن مسألة التعايش بين المذاهب.

ناهيك عن الباحثين المعاصرين سواء من أبناء الأحساء أنفسهم أو خارجها. هذا التصور في مفهوم التعايش يتسم عند أغلبهم بخاصيتين اثنتين:

الأولى ترتبط بالفكرة الاجتماعية عن التعايش، ومدى تشكل مظاهرها في العلاقات اليومية بين الناس. أما الثانية فهي ترتبط بفكرة مؤداها أن حياة الألفة والمحبة بين علمائها وأدبائها هي دليل على الألفة والمحبة بين عامة الناس في علاقاتهم الأسرية والاجتماعية.

وكأن تجسيد المحبة والاحترام عند النخبة من العلماء هو سبب في حصول تجسيد الاحترام ذاته بين عامة الناس.

السرود التاريخية لحياة هؤلاء العلماء يوحي بهذه النتيجة في أغلب الأحيان. وليس هذا موقفاً سلبياً على الإطلاق، كون النخبة من علمائها وأدبائها، في العصور الماضية، كانوا يشكلون الضمير المعبر عن إرادتهم المعيشية في الحياة. لكنه يوضح إلى أي حد كان مفهوم التعايش في هذا التصور مختزلاً في الجوانب الاجتماعية المقتصرة على حياة النخبة فقط.

ثاني التصورين هو ما لم ترتبط معانيه أو دلالاته عند أفق الباحث التاريخي بمسألة التعايش.

يتضح هذا الأمر في غياب خطاب أنثروبولوجي يغطي كل جوانب الحياة الإنسانية، ويرصد تجاربهم في السلوك العقائدي والاجتماعي والأدبي والاقتصادي والسياسي والفكري، ثم يربط هذه الجوانب بتحليل الوثائق التاريخية، التي تشكل في مجموعها الموروث المكتوب، سواء كان منها الأدبية أو الفكرية أو الدينية.

الثانية: نتائج هذا الغياب جعل من فكرة التعايش تبرر حضورها ضمن مفردات الثقافة الشعبية أكثر من حضورها ضمن دوائر الخطاب الفكري الواعي بتاريخه من العمق. لذلك في ظني لا توجد أدوات لقياس التعايش سوى الملاحظة والمعايشة.

وعليه أقول: ثمة تحولات طالت كل شيء في حياة الناس: المدينة انتقلت من طورها البسيط إلى المعقد، الكثافة السكانية والتخطيط العمراني، ساهما في تحوير فكرة التعايش، وجعلا منها فكرة تعيش في السلوك على بقايا إرث الماضي فقط، دون أن ترتقي إلى مستوى الخطاب الثقافي.

في الأحساء، هناك فجوة في الخطاب لا السلوك، وهو ما يمس فكرة الرؤية المشتركة للتعايش القائمة على فهم الواحد للآخر. هنا تحديدا غياب شبه تام لهذا الجانب. هذه الرؤية لا تصنع إلا بالحوار باعتباره قيمة تتأسس في نسق الحياة العامة للناس، لاسيما أن العادات والتقاليد والطقوس توفر الإمكانية الكبرى في استثمار كهذا، فذاكرة الرجل الأحسائي تحتفظ بطاقة جبارة بأدق تفاصيل ثقافته الشعبية، التي تعبر عن فكرة التعايش بأجلى صورها.