آخر تحديث: 4 / 5 / 2024م - 12:00 ص

سؤال الفضاء والنمطية في الكتابة

محمد الحرز * صحيفة اليوم

في جلسة حوارية مع بعض الأصدقاء المبدعين من الشعراء جوبهت بسؤالين أرى أن التعليق عليهما هنا جدير بالكتابة. الأول منهما يتعلق بكيف تنظر إلى فضاء تجربتك الشعرية؟ والآخر يتعلق بمقال كتبته هنا في جريدتنا الغراء بعنوان «ظاهرة التشابه داء عضال شعريا» فكرته ربط نمطية الكتابة الشعرية بوسائل التواصل الاجتماعي، وكأن هذا الربط كما يقولون ينفي كل كتابة إبداعية تمثل نتاج هذه الوسائل.

بالنسبة للأول أرى أن الفضاء مصطلح حديث، تمت استعارته من العلوم الإنسانية بعد ترحيله من الخطاب العلمي، وهو عادة ما يوظف لربط الزمن بالمكان من خلال ما ينتجه الإنسان المبدع من أثر كتابي أو سلوكي تشكل بالنهاية خصوصية تجربته.

لذلك أعتقد أن الزمن عندي في انبثاقاته الأولى هو استعادة للزمن الطفولي، وهذه الاستعادة لا تظهر إلا على صورة أمكنة مؤسطرة، لا يجمعها رابط سوى الحنين، الذي يرج زجاجة المخيلة في صفائها البلوري، الحنين الذي يمضي إلى الماضي بالقدر، الذي يمضي فيه إلى المستقبل، وظيفته الأساس التحفيز على الكتابة وتتبع المعنى على دروب المجاز، فالمجموعة الأولى «رجل يشبهني» والثاني «أخف من الريش أعمق من الألم» ثم الديوان الثالث «أسمال لا تتذكر دم الفريسة» جميعها تظهر هذا الحافز وتعمقه.

فالبيت بتفاصيله الدقيقة، الشارع، الحارات، السوق، المسافة داخل هذا الحيز أو ذاك هي ليست روافع لاستحضار هذا الزمن الطفولي فقط، إنما هي تحايل عليه أيضا حتى تظل اللحظة الشعرية حاضرة على الدوام ومشعة، ولا يمكنها ذلك إلا إذا كانت هذه الأمكنة ترتفع من حالتها الفيزيائية إلى حالتها الأسطورية، وحينما أقول الأسطورية، فالمعنى عندي يتحدد من داخل القصيدة وليس خارجها، أي أنه لا يحيل إلى أساطير خارجها، وهذا تميزت به اللغة الشعرية، خصوصا في هذه الدواوين الثلاثة.

طبعا لاحقا حدثت تحولات في هذا الفضاء يتوافق وتطور تجربتي من خلال ارتيادها مناطق لم أكن ارتادها سابقا، أو بالأحرى لم ألتفت لها مسبقا، فقصيدة التفاصيل اليومية، التي اقترنت بالقصيدة الحديثة وعلى الخصوص كتاب قصيدة النثر، لم تكن عندي سوى وضع المفردة على خط الزمن، ومن ثم اختبار درجة تحولاتها مجازيا.

أما السؤال الثاني، فينبغي التأكيد على أن ما قصدته بمسألة التشابه لا يتعلق بهذه الظاهرة على الإطلاق، فالمسألة لها جانبان الأول منها إذا ما وضعناها في سياق وسائل التواصل الاجتماعي، يمكننا هنا أن نقول: إن المسافة الفاصلة بين تجربة شعرية، وأخرى في الجيل الحالي أمّحت تماما بفعل تأثيرات شبكات التواصل الاجتماعي، فأصبح منظور الشاعر لنفسه منظورا أفقيا وليس رأسيا كما في تجارب الأجيال السابقة، وهذا يعني فيما يعنيه أن اللحظة التي تنبثق في ذهن الشاعر فكرة أنه يكتب شعرا، هناك العشرات مثله مَن تبثق في ذهنه ذات الفكرة، فيحدث تواصل أفقي فيما بينها بسرعة لا يمكن تصورها لو قسنا ذلك على الأجيال السابقة، فالمسافة عند هذا الجيل لا تتيح له الالتفات ولو قليلا للوراء وتأمل الشعر في سياقه التاريخي، كل شيء عنده يبدأ كبيرا وينتهي كبيرا.

وبالتالي ما نسميه تنميطا على مستوى المجتمعات كافة، يكون على مستوى الشعر تشابها تحت مطرقة شبكات التواصل الاجتماعي.

أما جانبها الآخر، الذي هو على صلة وثيقة بالجانب الأول، فهو يتعلق بالقصدية في القيام بفعل التشابه، فالتزامن بين تجارب هذا الجيل، لا يمحي المسافة بينها ولا تأثيراتها فقط، وإنما يفضي في أغلب نتاج هذه التجارب إلى تقاطعات جد متداخلة فيما بينها، سواء على مستوى اللغة الشعرية وتراكيبها أو مستوى الموضوعات وأغراضها، تداخل حتى كأنك تظن أن هذه القصيدة لا يكتبها شخص واحد وإنما عدة أشخاص في أعمار متقاربة.

بالمقابل حين أضع جيل الثمانينيات والتسعينيات ضمن نطاق تميز كل تجربة بصوتها الخاص، فأني لا أعطي حكم قيمة أو تفضيلا إزاء تجارب شعراء الجيل الحالي، قصدي بالنهاية هو أن طريقة حياة الفرد المبدع في التسعينيات والثمانينيات تفرض على كل منهم، اختلافات بنيوية مؤثرة.