آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 12:27 ص

أسماء متنازع عليها بين المملكة والعراق

محمد رضا نصر الله مجلة اليمامة

في بداية أيام العام الهجري 1415 دعا صديقنا الكاتب الاجتماعي الراحل فهد العريفي، نخبة من أصدقائه المتناثرين على امتداد المملكة.. إلى زيارة مسقط رأسه حائل.. شرفت أن أكون واحدًا منهم، وقد تمت استضافتنا بكرم حاتمي معهود، حيث تجولنا في حائل مارين بجبليها الأشمين أجا وسلمى، ووقفنا على مزارعها الوارفة.. وحينما دخلنا سوقها التاريخي العريق في برزان، أخذني أبو عبدالعزيز ليوقفني على ما بقي من آثاره المتهدمة، ويقول لي: هذا ما بقي من حي المشاهدة، وهو منسوب إلى مشهد الإمام علي في النجف، وقد ارتبطت المدينتان بعلاقة تجارية واجتماعية وثقافية متبادلة منذ قديم الزمان، بسبب وقوعهما في طريق الحج.. فالنجف - كما يذكر مؤرخها جعفر باقر محبوبة في كتابه الشهير «ماضي النجف وحاضرها» - كانت ميناء بريًا توسط العراق ونجد، منذ العصر العباسي والمغولي والصفوي الفارسي والتركي العثماني حتى العصر الحاضر، فيما يؤكد لوي ماسينيون المستشرق الفرنسي الذي أقام في العراق ردحًا من الزمن، وكتب عنه بحوثًا قيمة، أن النجف بلدة بدوية الطبع عربية الطابع، رغم أنها وهي لصيقة بالكوفة، قامت على أساس الدراسة الدينية، مع رحلة الشيخ الطوسي إليها منذ قرون.

وقد كانت دهشتي بالغة الاستغراب، حين قرأت ذات مرة في كتاب الباحث العراقي محمد حسين الأعرجي في كتابه «في الأدب وما إليه» الصادر سنة 2003 أن «هناك في النجف بمحلة المشراق جامع اسمه جامع السنة يصلي فيه النجفيون. ولكنه مخصص في الأصل لأهل السنة الذين يزورون النجف». لم يبدد دهشتي سوى حديث جرى صدفة مع أحد أوائل تجار الرياض، وهو الراحل علي آل ريس، حين فاجأني هو الآخر، أنه كان ممن تردد على النجف في العهد الملكي، وهو في شرخ شبابه، مُصَدِّرًا آلات الضخ الزراعية، من المملكة إلى المزارعين العراقيين.

في هذا السياق يذكر الباحث العراقي الأستاذ في جامعة الكوفة مقدام الفياض في دراسته حول «علاقات النجف مع حواضر الجزيرة العربية - حائل نموذجًا -» أن النجفيين حرصوا على توثيق عرى علاقاتهم بحائل - رغم التمايز المذهبي - حيث أقاموا سوق المناخة وهو ما يسمى اليوم بحي الجديدة، يقايضون بأقمشتهم وتمورهم وحبوبهم ورزهم «التمن»، الصوف والوبر والجلود والأغنام، الآتية على قوافل زملائهم من حائل.

لم تقف العلاقة عند هذا الحد، بل تجاوزته إلى التداخل الاجتماعي والمصاهرة النسبية.. ربما للمشترك القبلي بين مجتمعي حائل والنجف دور في ذلك.. وهذا ما بنى عليه الباحث الكويتي عبدالله النفيسي أطروحته للدكتوراه من جامعة لندن سنة 1970م حول «دور الشيعة في تطور العراق السياسي» منقبًا في الوثائق التركية والبريطانية، عن رحلة القبائل النجدية من أواسط الجزيرة العربية وشمالها إلى الجنوب العراقي، بحثاً عن الماء والكلأ منذ القرن السابع عشر الميلادي.. بل قبل ذلك بكثير.

وقد ولدت في العراق قبل ذلك وبعده حرب تركية وراء أخرى بريطانية، محاولاً استعادة هويته العربية الغالبة، التي كادت تغدو شذر مذر، وجغرافيته السياسية تستعيد الهيمنة التاريخية المتصارعة، بين إيران الصفوية وتركيا العثمانية، كما وثّق ذلك ستيفان هيمسلي لونكريك في كتابه «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» وهو كتاب يبحث عن تاريخ العراق في العصور المظلمة.

محمد سعيد الحبوبي:

السيد محمد سعيد الحبوبيلعلّي بهذا أجد مدخلًا في تقليب صور عراقية ما زالت نابضة في الألبوم السعودي.

دعونا نتصفح بعضها.

ها هو السيد محمد سعيد الحبوبي، أحد مراجع النجف الدينية البارزة، وأحد رموزها القومية والوطنية، وقد قاد جيشًا لجبًا من المجاهدين، لمحاربة تقدم جيش الاحتلال البريطاني، في الجنوب العراقي نحو بغداد، فاستشهد الحبوبي في معركة الشعيبة، قريبًا من البصرة سنة 1915م ممهدًا بحركته هذه، لانطلاق ثورة العشرين في ما بعد.

ومع علو مكانته في الحوزة الفقهية النجفية، إلا أنه كان أحد أبرع شعرائها المبدعين، فنجده يفجر ينابيع مشاعره، دافقةً بالحنين إلى نجد، كلما تصفحت قصيده الغَزل، وديمه الموشحة السكوب.

اسمعه وقد استوى عالمًا فقهيًا، وعَلَمًا مرفرفًا في النجف المحافظة، متذكرًا أيام صباه الغرير، وشبابه اليافع في حائل مرافقًا والده، المتاجر في سوق ”برزان“ وساكنًا في حي ”المشاهدة“ في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي:

بلادك نجد والمحب عراقي
فغير التمني لا يكون تلاقي

ولو أن طيفاً زار طرفي ساهداً
لكنت رجوت القرب بعد فراق

بلى قد أرى تلك المغاني تعلة
فاحسب أني زائر وملاقي

أرى الدهر يأبى في تآلف شملنا
كأني أعاديه فرام شقاقي

هي الشمس في أفق السماء مقرها
فكيف براق نحوها ببراق

ألا هل أراني واجدًا ريح وصلهم
وإن عدموني صحبتي ورفاقي

من هذا التمازج الثقافي بين البيئتين النجفية والحائلية طفق السيد الحبوبي يتناول «نجد» في شعره الغَزِلْ، وصوره المبهرة.. فهو لا يفتأ يتعلجه الحنين الشيق إلى مرابع صباه هناك، وقد اختطفه سنا برق ذلك الكوكب الأنثوي الفتان...

اسمعه يتغزل:

لُحْ كوكبًا وامشِ غُصنًا والتفِتْ ريما
فإن عداكَ اسمها لم تعدك السيما

وجه أغرّ وجيدٌ زانه جِيدُ
وقامة ٌ تخجل الخطى تقويمًا

يا من تجلّ عن التمثيل صورته
أأنتَ مثَّلتَ روح الحسن تجسيما

يا نازلي الرمل من نجد أحبكم
وإن هجرتم ففيما هجركم فيما؟


سعوديون في العراق وزراء وأدباء وصحافيون:

عبداللطيف باشا المنديل:

.. صورة عراقية أخرى ما تزال حية في ألبومي السعودي، هي صورة عبد اللطيف باشا المنديل، فحينما تشكّلت أول حكومة عراقية برئاسة نقيب الأشراف عبد الرحمن النقيب سنة 1920م، ضمت وزيرًا للتجارة من أصل نجدي هو عبد اللطيف باشا المنديل، المولود بمدينة الزبير في جنوب العراق، منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، لعائلة ثرية قادمة من إقليم سدير، التابعة اليوم لإمارة منطقة الرياض.

.. هذا وقد توزّر المنديل مرة أخرى للأوقاف سنة 1921م، وكان قد حصل على لقب الباشاوية، بعد نجاحه في ترتيب محادثات بين الملك عبد العزيز والأتراك، وقد أصبح وكيله بعد ضم إقليم الأحساء إلى مملكته الوليدة، إثر الحرب العالمية الأولى. وفي عام 1924 تم انتخابه في المجلس التأسيسي العراقي عضوًا عن البصرة.

سليمان الدخيل:

.. كذلك فإن أول صحافي نجدي وهو سليمان الدخيل المولود في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في بريدة من إقليم القصيم، هو الآخر ذهب في من ذهب إلى العراق، مع حركة «العقيلات» المتاجرة في الخيل والجمال، غير أن الدخيل كان يشده طموح نحو التعلم والتثّقف، وقد ولد في زمن كان الأتراك، يستبدون بجحافلهم العسكرية على أجزاء من العالم العربي، وفي مقدمته العراق التي امتدت هيمنتهم إلى ولاية البصرة شاملةً نجد والأحساء والقطيف.

هذا ما دفع بجنان الدخيل القومي إلى التبرم من السياسة الطورانية، مستلهمًا ثقافة مجتمعه العربي، التي أنضجها مقامه في العراق، وقد احتك بالعديد من علمائه وأدبائه وسياسييه.

يذكر حمد الجاسر في أحد أعداد مجلته «العرب»:

لمّا قامت الحرب العالمية الأولى، هرب الدخيل من العراق خوفًا من إلقاء القبض عليه وتسليمه لولاة الأتراك، فواصل السفر إلى المدينة المنورة بعد أن وجد الأحوال في نجد مضطربة ليقيم فيها مدةً، نسخ من خلالها بعض الكتب الخطية النادرة، المتعلقة بتاريخ العراق وكذلك بتاريخ العرب.

ويذكر العلامة العراقي أنستاس الكرملي؛ أن الدخيل وكان أحد كتاب مجلته «لغة العرب» قد جاب كثيرًا من بلاد جزيرة العرب والهند وديار العراق، وله اطلاع عجيب على تاريخ العرب وعوائدهم، وأخلاقهم، وأيامهم وحروبهم.

وبدعم من عمه جار الله التاجر في بغداد أصدر العدد الأول من جريدة باسم «الرياض» في يناير «كانون الثاني» سنة 1910م ودامت على اختلاف الباحثين بين أربع وسبع سنوات، وأصدر مع صديقه إبراهيم العمر بعد ذلك، مجلة باسم «الحياة» وفي سنة 1931م أصدر جريدة أخرى أسبوعية باسم «جزيرة العرب» بالاشتراك مع داود العجيل، وكان ينقل فيها أخبار توحيد الجزيرة العربية، على يدي الملك عبد العزيز الذي ارتبط وإياه بعلاقة مميزة.

لقد حظي الدخيل بتقدير نخبة العراق بعد قيام دولته الملكية البرلمانية، ووصفه رفائيل بطي، الأديب والشاعر والصحافي والوزير العراقي، بأنه خدم القضية العربية وساعد على نشر الوعي القومي.. ولعل من الهامش الليبرالي المتعايش الذي أتاحته الملكية الهاشمية في العراق، أن وجدنا السيد هبة الدين الشهرستاني، أحد أبرز المجتهدين، يصبح وزيرًا للمعارف، ويعمل على إنشاء مكتبة الجوادين في الصحن الكاظمي، ويصدر مجلة جامعة بعنوان ”العلم“ كان أحد كتابها الصحفي النجدي سليمان الدخيل! الذي كان ينشر فوق صفحاتها إعلاناته عن صحفه.

سلمان الصفواني «الابراهيم»

سلمان الصفواني:

وبعدما افتتح المنديل باب التوّزر في العراق وهو النجدي الأصل، فقد دخله قطيفي هو سلمان الصفواني، الذي ترك مسقط رأسه صفوى «وهي مدينة في محافظة القطيف»، في العشرينات من القرن العشرين، بعدما تعلم القراءة والكتابة، ودرس القرآن الكريم على معلمي بلدته الصغيرة... ذاهبًا إلى بغداد. وفي الكاظمية إذ كان شابًا متحمسًا بالغ الحماسة - كما أخبرني في لقائي به في بيته ببغداد في 30/11/1976م - قرر الانضمام إلى حركة الإمام الشيخ محمد الخالصي، المناهضة ضد فرض بريطانيا دستور - صيغ وفق مزاجها الاستعماري - على مملكة فيصل الأول، لتمرير معاهدة الانتداب البريطاني على العراق... مما دفع عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء ووزير الداخلية، بعد حكومة عبد الرحمن النقيب، إلى نفي الخالصي وأبنائه، ومعهم سلمان الصفواني، إلى البصرة فالحجاز.

إلا أن سلمان الصفواني يعود إلى بغداد ليصدر في 5 سبتمبر «أيلول» 1924م جريدة «اليقظة»، واستمرت الصحيفة بين إيقاف واستمرار حتى عام 1959م. بعدما هجم ما يسميهم الصفواني «الشعوبيين» قاصدًا الشيوعيين المتنفذين في حكومة عبد الكريم قاسم «في وضح النهار على مكاتب الجريدة وأحرقوا ونهبوا موجوداتها»، كما يقول في كتيبه ”هذه هي الشعوبية“.

وبسبب ثقافته المناهضة للاستعمار، اتهمت سلطة الاستعمار البريطاني، الصفواني بتحريض عشائر الفرات الأوسط ضد وجودها، فقررت سجنه مدة سبع سنوات... وفي السجن المركزي ببغداد كتب رسائله إلى زوجته، معبرًا فيها عن معاناته الإنسانية والسياسية والأدبية... وطبعها فيما بعد في لبنان سنة 1937م بعنوان «محكوميتي».

كذلك فقد امتدت علاقاته برموز الفكر القومي على امتداد الوطن العربي، كما عمل مراسلاً لمجلة «البلاغ» المصرية، وارتبط بعلاقة أدبية مع الأديب المصري الدكتور زكي مبارك، وجرت بينهما مساجلات منشورة... وعلى صعيد العمل الوطني العراقي، فالصفواني يعتبر أحد مؤسسي حزب «الاستقلال» الشهير... إضافة إلى أنشطة ثقافية واجتماعية وإدارية أخرى، جعلت الرئيس عبد السلام عارف بعد انقلابه سنة 1963م يختاره وزيرًا لشؤون مجلس الوزراء، واستمر في منصبه مع رئاسة شقيقه عبد الرحمن عارف... حتى الإطاحة به في الانقلاب البعثي سنة 1968م، وقد توفي سنة 1988م.

عبدالله الدملوجي:

أما د. عبدالله الدملوجي فقد تقاسمه العراق والسعودية، وهو المولود في الموصل سنة 1890م - المتوفي سنة 1971م، إذ كان طبيبًا للملك عبدالعزيز عندما اجتمع الملك عبدالعزيز في العقير ببيرسي كوكس المعتمد البريطاني في العراق، وقد حضر الدملوجي هذا المؤتمر سنة 1922م قبل أن يوحد الملك عبدالعزيز جميع أقاليم المملكة في الدولة السعودية الثالثة، وبعد ما حظي هذا الطبيب العراقي بثقة الملك عبدالعزيز، نراه يتحول إلى سياسي، فيوقع على بروتكول العقير، مع حكومة الملك فيصل الأول.. ليصبح بعد ذلك مشرفًا على الشؤون الخارجية عند فتح الملك عبدالعزيز الحجاز سنة 1926م، وقد تنازعت المملكة والعراق وزارته للخارجية، حيث لم يمانع الملك عبدالعزيز من عودته إلى بلده العراق سنة 1930م ليتولى وزارة الخارجية فيه في حكومة نوري السعيد وتوفيق السويدي، بعد ما فتح الملك عبدالعزيز أمامه الباب، بتعيينه مستشارًا للخارجية في نجد والحجاز في سنة 1920م إلى سنة 1928م.

محمد حسن آل نمر:

بعد سلمان الصفواني، يأتي محمد حسن النمر القطيفي، المولود في العوامية سنة 1300 هـ، ثاني اثنين انخراطًا في عالم السياسة والصحافة، بعد انصرافه كزميله سلمان الصفواني، عن دراسة العلوم الدينية، التي ربطته والمجتهد الكبير، الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، بعلاقة خاصة ليصدر صحيفته ”البهلول“ الأسبوعية، ذات النفس السياسي النقدي الساخر، لأداء الساسة العراقيين، ميالًا نحو اليسار الوطني والقومي، هو ما دفعه إلى الانخراط في ثورة الفرات الأوسط في الرميثة والديوانية سنة 1935م، فارًا من سكناه بالكاظمية إلى الكويت، بعدما أصدر البريطانيون حكمًا جائرًا ضده، إلا أنه سرعان ما عاد إليه إثر سقوط حكومة ياسين الهاشمي اليمينية، التي كان النمر يجاهر بنقده لها، ليعمل بعد ذلك في حقل التدريس، مغتربًا عن مكان سكناه بالكاظمية، حيث أُرسل إلى بعقوبة، ومنصرفًا بعد ذلك نحو تنمية موهبته بنظم الشعر، معبرًا عن آرائه السياسية ومواقفه الوطنية والقومية، ومناصرًا قضايا التحرر العربي من ربقة الاستعمار، وواقفًا ببسالة ضد حلف بغداد وزعامة نوري السعيد له سنة 1955م، مؤيدًا ثورة 23 تموز 1958م، بقيادة عبدالكريم قاسم، أما كتابته للقصة؛ فيعتبرْ المؤرخ الأدبي اليوم في العراق، أن محمد حسن النمر القطيفي من أوائل روادها، بقصته ”وادي عبقر“، هذا وقد اقترن بزوجتين عراقيتين، منهما واحدة من آل شعبان النجفية، فأنجب من هما بنين وبنات، قُتِلَ منهم ابنه ”بهير“ في الحرب العراقية الإيرانية، وذهبت ابنته ”تقية“ ضحية للحرب الأمريكية على العراق، هذا وقد توفي سنة 1978م، في الكاظمية.

د. عبد الحسين القطيفي

د. عبدالحسين القطيفي:

أما الدكتور عبدالحسين القطيفي، القانوني والسياسي الشهير، فقد سمعت منذ سنوات الطفولة والصبا حديثًا متقطعًا عنه، بوصفه قريبًا لصديق والدي، سليمان حسن الفارس، من سكنة القلعة بالقطيف، وقد اقترن بابنة عمه، أخت الدكتور القطيفي، إلا أن ملامح شخصية القطيفي ودوره في السياسة العراقية لم تتضح لي، إلا بعد لقائي الشاعر العراقي الكبير «محمد مهدي الجواهري» ببيته في دمشق، في صيف عام 1994م، مثنيًا على أستاذية القطيفي للقانون الدولي بعد حصوله على دكتوراه دولة من جامعة السوربون، ومقترنًا ب ”ماري“ الفرنسية، إذ أصبح بعدها مندوبًا للجمهورية العراقية في الجامعة العربية، إثر انسحاب القوات البريطانية من الكويت لمناقشة انضمامه للجامعة العربية سنة 1961م، كان مقابله في المفاوضات آنذاك، محمود رياض، مندوب مصر في الأمم المتحدة، ثم سفيرًا لها في سوريا، فوزيرًا لخارجيتها لسنوات طوال العهد الناصري، في حين أصبح الدكتور عبدالحسين القطيفي، وكيلًا لوزارة الخارجية في العهد القاسمي وممثلًا للعراق في المؤتمرات والمباحثات الدولية، وهو من عمل على صياغة اتفاقية شط العرب سنة 1975م، مناصفةً بين إيران الشاه وعراق صدام، وبما أنه أحد خريجي كلية الحقوق البغدادية، الرائدة عربيًا منذ إنشائها في عام 1908م، قبل تحولها إلى كلية للحقوق، حيث كانت مدرسة للحقوق، فقد أصبح القطيفي وهو أحد أبرز أساتذة القانون الدولي المرموقين المتخرجين فيها، عميدًا لكلية الحقوق بين عامي 1973م و1976م، أيّ سنة انحلال الجبهة الوطنية التي انفكت ما بين حزب البعث، والحزب الشيوعي، حيث أقيل الدكتور القطيفي من عمادة الكلية وسُحِبَت جنسيته العراقية، بعد فشل سكرتير صدام حسين، النائب وقتها، في امتحان الكلية، إلا أن هذه القضية لم تمت، حين فتح مجلس النواب العراقي جلسته الثالثة والعشرين من دورته النيابية الثالثة، في 14 أبريل من عام 2015م، باب النقاش العام أسفر عن رفع الظلم الذي أصاب الدكتور عبدالحسين القطيفي، والمطالبة باسترجاع جنسيته العراقية بعد رحيله عام 1425 هـ «2006م».

عبدالرحمن منيف:

حين ولد الروائي عبدالرحمن منيف بين الحربين العالميتين سنة 1933م لأب سعودي وأم عراقية، فقد كان ثمرة لحركة العقيلات من وسط نجد، حيث اشتهروا بالمتاجرة في الخيول والإبل بين العراق وسوريا والأردن ومصر، كان منهم إبراهيم والد عبدالرحمن منيف، المولود في بريدة، الذي تلقى ابنه التعليم في مدراس الأردن، بعدما استوطن والده عمان، ثم انتقل عبدالرحمن إلى بغداد لدراسة الحقوق في جامعتها، غير أن اشتراكه في حركة احتجاجية ضد حلف بغداد في حكومة نوري السعيد سنة 1955م، اضطره للمغادرة إلى مصر، ليستكمل الليسانس في كلية حقوق جامعة القاهرة، ثم سافر إلى يوغوسلافيا بمنحة دراسية لحزب البعث، وقد نال من جامعتها الدكتوراه في اقتصاديات البترول، وهو ما فتح أمامه المجال لدراسة المجتمع الاقتصادي والسياسي للمملكة، لينعكس ذلك على خماسيته الروائية «مدن الملح» بعد نجاح روايته الأولى «الأشجار واغتيال مرزوق» سنة 1973م وما تبعها من روايات أخرى، نبهت إليه أنظار النقاد والروائيين العرب، وقد فوجئ نجيب محفوظ بموهبته الروائية المدهشة، كما عبر في حديثه معي في برنامج «الكلمة تدق ساعة» التلفازي صيف 1978م بشقته في حي العجوزة بالقاهرة.

غير أن ارتباطه الأيديولوجي جعله دائم التنقل بين عمان وبغداد ودمشق وباريس، وقد اشترك أثناء إقامته ببغداد مع الروائي العراقي من أصل فلسطيني جبرا إبراهيم جبرا في صياغة عمل روائي هو «عالم بلا خرائط».. بل أن ارتباطه النفسي والأيديولوجي والسياسي بالعراق، دفعه إلى إصدار ثلاثيته الروائية «أرض السواد».

وكاد يعود إلى بلاده السعودية، التي لم يرها قط، حين ألم به مرض الكلى في أخريات حياته سنة 2004م، مبديًا استعداده للمعالجة فيها والتواصل مع أبناء أخيه وأهله - وكنت شاهد حال على ذلك - لولا موقف زوجته الفلسطينية ذات الحساسية المفرطة ضد المملكة، التي حالت دون رؤية عبدالرحمن منيف بلاده والالتقاء بأهله وأصدقائه ومعجبيه.

الشاعر العراقي النجدي محمود البريكان

محمود البريكان:

يعتبر الشاعر محمود البريكان أحد أبرز رواد القصيدة الحديثة في العراق والعالم العربي، وهو مولود لأبوين عراقيين من أصول نجدية سنة 1929م، انتقلت أسرته من الربيعية إحدى هجر نجد، إلى الزبير في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، لتنضم إلى المجتمع النجدي المصغر في الزبير، ذات البيئة الصحراوية والبيوت الطينية.

وقد ساعدت أحوال والده المتاجر في الأقمشة بين البصرة والكويت، إلى الدراسة في مدرسة بالعشار، فينيسيا العراق، حيث يلتقي نهرا دجلة والفرات عبرها صوب شط العرب.

وقد انتقل البريكان لدراسة القانون في جامعة بغداد سنة 1949م حيث اضطرته ظروف أسرته بعد انكسار والده في تجارته، إلى تدريس اللغة العربية بين مدارس الزبير والكويت، قبل أن يتخرج في جامعة بغداد سنة 1961م، مواصلًا تدريسها في مسقط رأسه، دون أن يمتهن المحاماة، مُؤْثِرًا العزلة النفسية والاجتماعية والثقافية، سوى علاقة محدودة بابن البصرة الشاعر بدر شاكر السياب، الذي ربطته وإياه علاقة صداقة تجاوزتها إلى الإعجاب بشعره، وكذلك بالشاعر البصري الآخر كاظم الحجاج، ومع ريادة البريكان الشعرية إلا أنه كان مقلًا في الكم، لكنه مبدع في الكيف، مع ثقافة واسعة في قضايا التراث والمعاصرة، مع اطلاع على الفلسفة الأوروبية الحديثة، متأثرًا بالتيار الوجودي الذي يبدو أن البريكان وجد فيه ما يتفق وعزلته النفسية وتأمله الكوني، دون أن يتحزب في بلد تقاسمته الأحزاب وعصفت بمجتمعه.. ويبدو أن هذا هو ما يقف وراء اغتياله الغامض في يوم 27 فبراير 2002م في منزله بالزبير، حيث لم ينضم إلى جوقة المطبلين للطاغية، بل نأى بنفسه عن حضور جميع مهرجاناته الأدبية ووسائل إعلامه..

ولعل من المفارقات العجيبة أنه توقع طريقة موته الدموية، بهذا النص ذي الحس الاغترابي والتأمل الكوني والقلق الوجودي بعنوان «الطارق»:

على الباب نقر خفيف

على الباب نقر بصوت خفيف، ولكن شديد الوضوح

يعاود ليلاً. أراقبه، أتوقعه ليلة بعد ليلة

أصيخ إليه بإيقاعه المتماثل

يعلو قليلًا قليلًا

ويخفت

أفتح بابي

وليس هناك أحد

من الطارق المتخفي؟ ترى؟

شبح عائد من ظلام المقابر؟

ضحية ماض مضى وحياة خلت

أأنت تطلب الثأر؟

روح على الأفق هائمة أرهقتها جريمتها

أقبلت تنشد الصفح والمغفرة؟

رسول من الغيب يحمل لي دعوة غامضة

ومهرًا لأجل الرحيل

هذه القصيدة المتنبئة تعتبر تناصًا شعريًا، مع قصيدة «الغراب» لإدغار آلان بو، وغيرها من قصائد هذا الشاعر العراقي ذي النبرة الفنية اللافتة والرؤية الفلسفية الجدلية، تنتظر الإذن بإعادة نشرها من أخيه المحامي السعودي عبدالله البريكان!