آخر تحديث: 14 / 5 / 2024م - 7:58 م

عندما يرحل الملاك

يوسف أحمد الحسن *

عندما يجتمع الهدوء بالسكينة، والإيمان بحلو الكلام، والتواضع بحسن الظن فلا أصدق من كون ذلك يمثل عندي عمتي «زهرة بنت ناصر أم موفق» والتي رحلت عن عالمنا «قبل عام» في هدوء كما عاشت في هدوء تام، مصرة على ألا تعذب معها أحدا في صراعها مع الألم والمرض حيث لم تزد الفترة الزمنية لمعرفة إصابتها بالمرض الخبيث على أسبوع قبل أن ترحل.

فهل لتوقيت رحيلك أي دلالة يا عمتي الغالية؟ هل هو الشوق لأخواتك الثلاث اللاتي سبقنك إلى هناك؟ أم أن هناك من استدعاك للتعجيل بالرحيل؟ هل استعجلت الرحيل لأن الوضع هنا لم يعد يحتمل، أم إن رمضان هناك أجمل؟

عمتي الغالية التي فقدتها في شهر الله المبارك وهي التي عندما يجلس معها أقاربها فإنهم لا يكادون يسمعون صوتها من شدة انخفاضه. تراقب كل ما يحصل بين أحفادها وأولاد أحفادها من دون أن تتدخل إلا بمقدار ابتسامة خفيفة أو ضحكة ناعمة أرق من نسمة هواء في فصل الربيع.

ليست من النوع الذي يحشر أنفه في كل شاردة وواردة، بل تجدها تتسامى على المشكلات، متجاوزة إياها إما بتنهيدة من أعماق قلبها الأبيض أو بدعاء تشعر من نبرات صوتها بأنه مستجاب.

كما أنها ليست من النوع الذي يكثر العتاب.. فحين يزورها القريب ترحب به أشد ترحيب متفضلة عليه بجميع ما يتوفر في البيت وزيادة مع فائض من التحية والابتهاج. أما عندما يغيب فتكتفي بالسؤال عنه وإيصال التحية له دون عتاب إلا بالمقدار غير المؤذي.

تستعد للفرائض اليومية قبل الوقت بمدة كافية حتى في أيام مرضها. وحين تجلس على سجادتها أو الكرسي المخصص لصلاتها فلا تتوقع منها أن تقوم في دقائق معدودة كما قد يفعل البعض. أعطها ساعة أو اثنتين في الأيام العادية وأكثر من ذلك في المناسبات الدينية. وفي كل مرة أرغب في الاتصال بها يجب أن أعطي الوقت الكافي قبل وبعد موعد الفريضة.

لم تمر أيام على فراقها حتى بدأ الشوق إليها يهزني من الداخل، ويدب في عروقي لرؤيتها، للجلوس بجانبها، للاستماع إلى حديثها الناعم.. للتو أعرف أن الشوق قد يقتل، وللتو أكتشف بأنني كنت موفقا بالاقتراب منها، ولا أستطيع استيعاب أنني لست بسامع صوتها بعد الآن، رغم أن قلبي كان دائما معها بكل إيمان ووفاء.

أفتقد تلك النظرات الجميلة عندما ترمقني، كما أفتقد حنوها على أحفادها واهتمامها الكبير بهم. لن يتحملوا فراقها. سيدخلون مساء كل جمعة إلى غرفتها أملا في أن يتقافزوا على أكتافها المتعبة أو أن يتعلقوا بلباس صلاتها. لكنهم لن يجدوها ولن يجدوا عنها بديلا.. ستفتقدها الغرفة والمصلى والكرسي المتحرك والمسبحة القديمة. لا يمكن عد مرضها إلا ابتلاء لتمحيصها والتخفيف عنها قبل رحيلها إلى دار نعيمها دائم ندعوه تعالى أن تكون قد عصمت بذلك من النار وفازت بالجنة مع مريم ابنة عمران وفاطمة بنت محمد.

ربما تكون الدموع بديلا عن قبلاتها، وربما يحل الدعاء لها محل سماع صوتها، وربما يكون لأمل اللقاء بها هناك بعض السلوى.. ربما وربما وربما.. لكن الأكيد الوحيد في القصة أنها رحلت عن هذا العالم إلى عالم أفضل منتظرة ذهابنا إليها واحدا تلو الآخر حيث يجتمع الأحبة.