آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 10:08 ص

أمي من فريق الأطرش «10»

عبد العظيم شلي

أجول النظر في رابعة النهار، مفتونا بامتدادات البحر، مراكب صيد منثورة على الساحل، تتراقص الموجات بايقاع متواصل، ترتطم بجدران المنازل، رشات مالحة تدخل عنوة عبر الأبواب والنوافذ، وقفت مبهورا بينما خالي يراقبني بابتسام، بللت أقدامي فانتشيت، أطفال يصطادون الأسماك الصغيرة والنوارس، فتنة مشهد غمرتني بوشائج الأمنيات، يرتد طرفي برمشة حلم، فأُصبت بلهفة ضمأ، ياليت بيتنا بجوار اللازورد.

أدركنا العطش من شدة الحر والتحريج على بضاعتنا الخضراء، ارتشفنا بملئ كفوفنا من عين السيف.

قال خالي: كم صرة بقيت في المراحل؟ أجبته صرتان!

ناديت ”بقل ورويد آخر حبتين، حياكم يا أجاويد“.

خرجت امرأة من بيت العشيش «كبر» ترتدي ثوبا هاشميا يتدلي من على رأسها ”مشمر“ مشجر، وفي يديها حبات رز، تلوك لسانها من بقايا أكل، أدركت بأنها ”فزّت“ من سفرة الغذاء، وأتت الينا مسرعة، ناولتها آخر صرتين عند ظل الباب، فأعطتني قرشين رائحتهما سمك مشوي، وقالت ”لو كان غذانا فيه اشوية لجبت ليكم صحن عيش، أنت من وينه ياولدي“، أجبتها ”من تاروت وذاك خالي من فريق الأطرش، أبيع وياه في عطلة المدرسة ”الله يبلغ امميمتك في عرسك، وإن شاء الله تكون مريتك من السنابس“!

كنت أنظر لوجهها المتهلل حنانا ومن خلفها منارة شيخ محمد بلونها الأبيض شامخة في السماء، عبارتها مألوفة تسري على الألسن ”الله يعرسك“ تتقاطع مع جملة «قواك الله»، لكن صدى كلماتها تتناهى ترددا لمسجد يوجب الدعوات عفوا أو قصدا، والظهيرة هجعة المتعبين المأخوذين بالنذور، دعوة تلك المرأة لم تخب، فبعد عشرين عاما مال قلبي شرقا تاركا كل الجهات، شريكة حياتي بيتهم على بعد خطوات من عين السيف وزمن القول كانت هي في عالم الذر، وحسب كلام عمتي أثناء الخطبة ”بنتي محتركة في وجهك“.

خالي يشعل سيجارة وينفثها غناء ”أربع وستين أخضر مرني في طريق الخرج محبوبي معاه، نور عيني لمن شافني تستر بالعباءة واستحى مني“، أغنية حجاب مبعثها البشتخته القديمة، قفلنا راجعين بعد يوم معبئ بالذكريات العطرة، سردت مشاهداتي لوالدتي مريم وهي تهز رأسها امتنانا ثم فاضت بالكلام وجعلتني أرى السنابس وكأني لم أرها بعيني العابرة.

أجابتني باستئناس عن أُمنيتي المفضلة حسب رؤياي ليت بيتنا يطل على البحر وأن يكون فريق الأطرش على مرمى حجر.

بينت لي بأن أماني الحالمين لم تكن بعيدة، فقد تحققت لأناس من تاروت بارتحالهم للسنابس، وذكرت تحديدا العوائل التي انتقلت من الديرة وسكنت السنابس:

*عائلة دغام مع «عائلة آل جبران التي سكنت الربيعية» كانوا جيران، ونازلين مكان بيت عمك عبد الرسول الحالي ”بيوتهم من جريد النخيل“.

*عائلة المؤمن

*عائلة حجي عبدالله السني

*عائلة آل تركي

*عائلة الكواي

*عائلة البحارنة

*عائلة مغيزل

*والشيخ على بن يحي

*عائلة آل جابر

وهناك عوائل أخرى من أرض الجبل والخارجية والقاطنين وسط النخيل، عائلة الكرانات وآل طلاق، وقنمبر والجنوبي، وعند نهاية الستينات وعلى مدى ثلاثة عقود لحقت بهم أيضا عوائل أخرى، الظريف، الحماقي، آل عمران وغيرهم.

طاب لوالدتي أثناء سرد ذكرياتها التوقف عند آل جابر بحكم القرابة، بأن العائلة أغلبها كانت تسكن تاروت، قبل الارتحال من منطقة الديرة، فقد قسموا بيتهم إلى قسمين، القسم الشرقي بقي فيه المحسن بن جابر المختص بحسونة الشياب، والجزء الغربي اشتراه الحاج عبد الكاظم والد ملا عبد الرسول البصاره.

واستشهدت أمي بكلام والدتها ”أمي تعلمنا، تقول الناس: هذا بن جابر بهيم مخلي الديره سلطانية، تحتها السوق وتحتها العين ورايح يسكن في وينه، يسكن في السنابس البعيدة، ايه مايدروا عن الدنيا ويش بتصير تالي“!

كلام أمي يأخذ مداه عبر منحنيات ذكرياتها في عهد الصبا، إبتداءً من منازل اقاربها، ومعارف جدتي، بوصف الأمكنة والناس، فيض شوق واستئناس لوجوه الغبطة، قبلات معطرة برائحة المشموم. استجمع صور مشاهداتها بشكل مكثف برسم تجليات الحنين والق الأمس.

بتوصية من جدي محمد هبوب، بعد ولادة أي بقرة يمتلكها ضمن حضيرة بيته المسورة بالسعف وسط نخل ”عين خشكار“ - إحدى مزارع الجهة الجنوبية لفريق الأطرش - أن تكون السحبات الأولية حليبا ولبنا سهما لبنات اخته الساكنات في السنابس.

يا له من صدر ممتلئ لبقرة تسر الناظرين ترعى وسط العشب الأخضر، فمن حملها إلى حين ولادتها وارضاع صغيرها، يكون ضرعها مكتنزا يدر حليبا متزايدا قوامه الكثافة والسمن، هو الأفضل والأشهى والأجود، تتباهى جدتي أثناء الحلب ”ويش حلاوة حليبة بقرة الوالد دسمه عدل عدل، وإذا خضينها واستوت، شوف اللبنه تصير شيرازه فيها للبا غزوز“.

تتوشح جدتي بردائها ذو الخطوط الحمراء وملفعها المطرز بالزري، ترسل ”غضارة لبنة الوالد“ هدية خاصة للقريبين من القلب،

تتحرك شرقا ترافقها أمي وخالتي آمنة التي تقول عن بيت بت عمتها ”بنروح بيت أبونا الفاني“ - من كثرة زياراتهم والفتهم لأهل البيت وحوش الدار - يتحركن صبحا حاملات على رؤوسهن خيرات النخل من رطب ولوز وموز وتين ورمان، ومنتوجات البقر، يقطعن الدروب الترابية، المؤنسة بفعل حركة ”المشاية“ من نساء ورجال.

وبعد أن تتوارى النخيل خلف ظهورهن تماما وتحديدا عند ”المسطح“ أو الرملة شرق مقبرة المصلى ببضعة امتار، تؤشر جدتي ”داكيه بانت لينا السنابس“ لتهون على بناتها طول المشوار وعبء حمولة الرأس وثقل سلال الأيدي، الباقي على وصولهن كيلو واحد، يقطعن الدرب سوالفا وحكايا.

حين يصلن إلى بيت علي بن عيسى فردان، يطرقن الباب وكل واحدة تسمع أنفاس الأخرى، تفتح لهن ”ارضيوه“ قلبها وتستقبلهن بصوتها الحنون ”هله هله، هله بهالقبال“ تطرح من على رأس جدتي ”صفرية اللبن“ وتأخذ ”الگفيف“ المليئة بالثمار، كلمات الحنين المتبادلة تتصاعد من ”حوش البيت“ قبلات وحضنات لخالتي وأمي ”هله بريحة خالي الغالي“، تحيات وترحيب يثلج صدورهن مثل ماء ورد ينساب على الوجوه، تقول أمي مريم ”هذه ارضيوه اتعلقت بابوي، وهو يحب بنات اخته واجد كأنهن بناته، وقبل لا يجيبوني، كان ابوي ويا عماتي ساكنين في نخل السعلول“ - يقع ضمن المزارع الممتدة على طول طريق تاروت القطيف القديم، غرب سوق الخضار - جدتي وارضيوه تبحران عن أحوال الأهل والخلان، تطويان الوقت ودّا ومحبة، جلسة مسرة وفزعة لتحضير الغذاء، فرحة وردحة الصغار مثل رقصة عصافير على أغصان الشجر، تلعب أمي وخالتي برفقة بنات ارضيوه نصرة ومدينة، ويتساعدن ذهابا برفقة الأمهات لجلب الماء من عين السيف، جمال البحر ينعكس ألقا على وجوههن، وماية لهلال تسحب إلى الداخل متجاوزة حدود العين، تؤشر ارضيوه ”هذي سنابيك لعائلة الضامن واللي جنبها آل حبيب وعليوات وفي الجنوب للكواي، وشماليهم لعائلة المبشر“ ثمة بحارة عند السفن في حراك مستمر نزولا وصعودا، سفن أخرى سافرت منذ بداية الصيف للبحث عن اللؤلؤ، تنشد أمي العودة وهن حاملات على رؤوسهن شربات الماء ”أم الغنايم رقيوها على السيف، فيها اصبيان تجر المياديف، يا نوخذاهم لاطول عليهم، احبال الغوص قصص ايديهم، أم الحصم فيها براد وراحة، وفيب شيل ومرقد البراحة ”، تنبهر والدتي مريم من حفاوة بنت عمتها وتقول:“ احبها واجد واجد، رضيوه المخشوش والمضموم تطلعه، ماتخلي شيء عندها الا تقسمه علينا، ديك اليوم بطلت كبتها، ترست گفه، چده متروسه حلاوة على كل رنگ، اقول من وين جمعته، ايه رضيوه عندها صدقان واجد الكل ايحبها“ ثمة قلوب تفيض محبة تأسر الجميع. عند الأوليين زيارات الأهل تسري كجري الدماء في العروق، تواصل جدتي طرق بيت بت عمة والدتي أم جاسم العبادي وسلام وتحية لزوجة طاهر الزريقي، أقارب أعزاء وصلة الأرحام توصية ربانية وهمزة الوصل هدايا معنوية وحسية والأرواح جنود مجندة.

نسائم البحر تأخذ جدتي وبناتها من وسط السنابس إلى شماله، قاصدة نزل إحدى قريباتها العزيزات على قلبها، تطرق بابا خشبيا لسور طويل مبني من السعف، تهمس جدتي لبناتها، سوف ترون أجمل بستان في السنابس، فتح الباب وفي الاستقبال ”العبودة بنت حسين بن رضوان“ وبالأحضان مع أمي العودة، ”جدتي تقول: هله يابت عمتي، وهذه ترد هله يابنت خالي، ايلاوش مكلفة على روحك بالدهنه وصفرية اللبن وحاملتنها من فريق الاطرش إلى هنيه“، ”تستاهلي كل خير يابت عمتي“.

حين مشين من الباب الرئيسي إلى مكان الجلسة وهو العريش، قطعن مسافة طويلة، إنهن في أرض واسعة خضراء، تتباهى بالنخيل والأشجار المثمرات، والسكن فقط دارين للنوم تكاد لا ترى من كثافة الزرع، تحسب جدتي المكان بأنه إحدى مزارع شمال تاروت، كأن ”معامرة“ قطعت من معامير فريق الأطرش وأوتي بها لتسكن بجوار بحر سنابس، مزرعة عامرة بالخضروات وبالبطيخ والطماطم والكوسة والباذنجان وأشجار التين والرمان واللوز، ثمار تتوزع على سفرة الغذاء، والسوالف متعة روح في حضرة الأهل وظلال النخل، هدير الموج يرسل سلام للمتولعين بحب الطبيعة، نوارس البحر تقول بأن بن جابر كان ذكيا، زرع ارضه الشاسعة طولا وعرضا بما لذ وطاب من اللون الأخضر وثمار الخير والبركة.

هجر الديرة وترك ذاك المنزل الضيق وارتحل إلى مكان جعله رحيبا ليس بمساحته الكبيرة إنما بخضرته المتنوعة الآسرة للقلب. كم خيل للمتفائلين بأن مزارع النخيل سوف تزحف في كل الجهات وبأنها ستغطي كل أجزاء جزيرة تاروت ولن يبقى للسكن محلا.

إيه على احساسكم النبيل يا شباب الأمس حين كنتم ترسلون لاصدقاءكم في الداخل أو الخارج، أثناء المعايدات بصوركم الشخصية، مرفقة بمنظر زراعي، ومذيل مع تحيات المخلص.... من جزيرة تاروت الخضراء، كلمة صدق بخرتها الأيام في عصر الجفاف، وذهب الإخلاص مع من زرعوا وذيل السلام ب ”المسجات“ المعلبة، تحايا لأماكن خاوية على عروشها، صديقكم.... من جزيرة تاروت الصحراء.

هل أبدنا الزرع وقتلنا الشامخات انتقاما لمن أخافونا منها ليلا ”نام لاتجيك أم الخضر والليف“. نمنا وصحينا ووجدنا مزارعنا أعجاز نخل خاوية.

صوت ناي حزين يبثه الهندي الأحمر: ”تتحجر قلوب الناس عندما يبتعدون عن الطبيعة“.