آخر تحديث: 1 / 5 / 2024م - 4:42 م

تنافر العقائد عن المنطق

محمد حسين آل هويدي *

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ... صدق الله العلي العظيم - الأعراف.

علينا أن نعرف أننا لا نتكلم عن الدين هنا، وذلك لأن دين الله سبحانه واحد موزون بما هو أقل من الذرة ميزانية مضبوطة لا يختل الكون معها. والعقائد عبارة عن تصور بشري للدين، سواء كان هذا الدين سماويا أو أرضيا. الدين مثل الرب الذي خلق كل شيء، ولكننا لان نستطيع أن نستوعب هذا الخالق لقصور أذهاننا. أما العقيدة فهي مثل الإله، والإله عبارة عن تصور الناس لربهم «أربابهم». أفضل وصف للإله، يصفه القرآن في آية الكرسي: ﴿اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. والقرآن يركز على قضية الإله ويشدد على وحدانيته، ومن المستحيل أن يكون هذا الإله مختلفا، كما هو جلي، حتى بين أصحاب المذهب الواحد: ﴿قُلْ إِنَّمَا يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.

أما التصورات البشرية للرب في صيغة إله، فهي متعددة، وغير وافية للخالق العظيم. ليس من الصعوبة أن نعرف أنه من المستحيل لعقولنا أن تستوعب إلهنا كما هو، وإلا حينها ما أصبح إلها عظيما. عقولنا يعتريها النقص والتصورات الباطلة. عقولنا لا تستوعب معنى إله. ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. وهكذا هم الناس على طول الخط؛ منذ نوح، إلى يومنا هذا. فقط الذي لا يعرف الله سبحانه يظن أن تصوره للإله تصور صحيح 100%، وهو لا يعلم بذلك أنه يتمادى أكثر من اللازم: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.

أكثر العقائد على الأرض فاسدة ﴿لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ. وكلما أتى نبي ليصلحها، عادت إلى فسادها القديم ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ، وقليل من عبادي الشكور.

بعيدا عن دين الله العظيم، نود أن نري القارئ الكريم بأن أكثر العقائد بشرية ولا تستقيم مع دين الله بدليل مخالفتها للمنطق واعتمادها على المغالطات المنطقية بشكل كبير جدا. ليس هذا درسا في الفلسفة أو المنطق أو المغالطات المنطقية، ولكن سنأخذ منها ما سيفي بالغرض، وعليك أيها القارئ الحصيف عرض بعض العقائد على هذه المغالطات لتستطع التمييز.

أول مغالطة الأنسنة «Anthropomorphism»، وهي صياغة الأشياء على شكل الإنسان وجعل هذا الإنسان محورا للكون. ومن أمثلة هذه المغالطة، أنسنة الله سبحانه. فمنهم من كيفه على شكل الإنسان، ومنهم من أعطاه صفات بشرية، حتى جعلوه فاسدا منحازا لهم من دون الناس. نحن لسنا بحاجة لدليل على هذا التصور، فالتماثيل والأصنام خير دليل. بل تصور الناس اليوم للخالق العظيم لا يخلو من الأنسنة: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ. أيها الإنسان الكريم، الله ليس منحازا إليك في أي شيء، إطلاقا. الله ليس كما تتصور أنت وتشتهي: ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ۖ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. رجاء، عدّوا العقائد التي لا تؤنسن الله وتجعله منحازا لها؟

ثاني مغالطة الاحتكام إلى السلطة «authoritarianism»، وهي تنص على أنَّ المصدر النهائي للمعرفة عبارة عن سلطةٌ من نوعٍ ما، سلطةٌ قيِّمة على أمرٍ بعينه، قد تكون هذه السلطة نظامًا كالكنيسة، أو نصًّا كالكتاب المقدس، أو قانونًا أخلاقيًّا، أو مدنيًّا، أو شخصًا، سلطة أهل العلم والاختصاص كل في مجاله. وهذا أمر شائع بين البشر وأصحاب العقائد إلى يومنا هذا: قال فلان، وهذا رأي علان، ومن هو أنت كي تناقش رأي فلتان. في حين أن إبراهيم الخليل طلب إلى الله الدليل وجادل في قوم لوط.

ثالث مغالطة التأثيل «etymology» بحيث يتم تضييق سعة اللغة وتثبيتها على معانٍ منحوتة في حجر لا يمكن البت فيها أو النظر إليها من زاوية أخرى. مثلا، في اللغة العربية، للقطع عدة معان، ومنها الجفاء، وقطع الطريق، وقطع الرجاء، والمنع،... الخ. ترك المفسرون كل معاني القطع في السرقة وثبتوها على بتر اليد، وكأن الله عاجز على أن يستبدل كلمة قطع ببتر كيلا تختلط الأمور على الناس. فقطع اليد ليس مثل بترها. وقطع اليد يعني منعها عن الفعل بالسبل المتاحة؛ مثلا، بإيجاد وظيفة للسارق، أو تأهيله نفسيا وروحانيا، أو إعطائه ما يستحق من بيت مال المسلمين،... الخ.

مغالطة الاحتكام إلى القديم «التقاليد»: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. من المؤسف أن البعض يستخدم الماضي السحيق للحكم على أهل الحاضر، وهذا موجود في أكثر العقائد، وكأن الحياة توقفت على ذلك الزمن ولم تتقدم خطوة. وفي هذا الأمر، قال الفيلسوف فرنسيس بيكون: عارٌ على الجنس البشري أن يُستكشف العالمُ المادي على هذا النحو المذهِل بينما تبقَى حدودُ العالم الفكري محصورةً في الكشوف الضيقة للقدماء. وقال أدونيس، أيضا: الإنسان يحيا بالتغير، الحياةُ لم تُعطَ له لكي يحفظها، بل لكي يُغيرها. أو كما قال ماركوس أوريليوس: التغيرُ يحفظ نظام الأشياء، ويبقي العالم صبيًّا على الدوام.

مغالطة ترجيح المظهر على الجوهر «style over substance». يقع المرء في هذه المغالطة عندما يولي أهمية زائدة للأسلوب الذي تم به عرضُ حُجةٍ ما، بينما يهمِّش، أو يتغافل، مضمونَ الحجة ومحتواها. وفي ذلك، يقول البارئ: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وهم يصورون الصلاة على أنها مجرد قيام وقعود وقبول ورد؛ بدون روح تذكر، حتى ينشغل المصلي عن الروحانية المطلوبة في سبيل ألا يخطئ في شيء من حركات الصلاة.

مغالطة رجل القش، بحيث يهاجم المغالط نظريةٍ أخرى غير حصينة بدلًا من نظرية الخصم الحقيقية، وذلك تحت تعميةٍ من تشابه الأسماء أو عن طريق إفقار دم النظرية الأصلية وتغيير خصائصها ببترها عن سياقها الحقيقي أو بإزاحتها إلى ركن قصيٍّ متطرف، ويشبه هذا الجهد العقلي العقيم، سواء حسنت النية أو ساءت، أن يكون رميًا لخصمٍ من القش بدلًا من الخصم الحقيقي، أو قصفًا لكتيبةٍ هيكلية بدلًا من قصف الكتيبة الحقيقية! إنه لأيسر كثيرًا أن تنازِل رجلًا «دُمية» من أن تُنازِل رجلًا حقيقيًّا. مثلا، تقول لهم إن الله نهى عن السب بآية محكمة، ثم يبدأ باللف والدوران، ويقول هم أيضا يسبون. وإن هم سبوا، ما الذي يجعلك تسب وتخالف صريح القرآن؟

مغالطة استدرار العواطف «Ad misericordiam». لستُ بحاجة لضرب أمثلة في ذلك، فهي مستفيضة لتجييش الناس عن طريق الضرب على وترهم الحساس. وهذا الذي جيش داعش على مستوى دولي. وهذا الذي غرر بالشباب، على مختلف الأصعدة، حتى ثكلتهم أمهاتهم. هل استشاروا أمهاتهم قبل التغرير بهم؟ هل يتحملون دماءهم؟ هل يعلمون ماذا فعلوا بهؤلاء الثواكل؟

مغالطة المصادرة على المطلوب «petitio principii»، وهي التسليمُ بالمسألة المطلوب البرهنةُ عليها من أجل البرهنة عليها! وذلك بأن تفترض صحة القضية التي تريد البرهنة عليها وتضعها بشكل صريح أو ضمني في إحدى مقدمات الاستدلال، وأنت بذلك تجعل النتيجة مقدمةً وتجعل المشكلةَ حلًّا وتجعل الدعوى دليلًا! الله فضل بني إسرائيل. ونحن بنو إسرائيل. لذلك، نحن أفضل الناس. كلا يا عزيزي. الله فضل السلالة النبوية من بني إسرائيل، وليس أولئك المعاندون الذي قرحوا كبد موسى .

مغالطة المنشأ. مثلا، أكثر الناس أقروا بأن الأرض مسطحة، لذلك لابد لها أن تكون مسطحة. وإن اتفق جميع البشر على خطأ، هذا لا يجعله صحيحا. هل يعقل أن أكثر الأمة على باطل؟ وليش، لا. أكثر الأمم على باطل.

مغالطة الحيد عن المسألة «ignoratio elenchi». مثلا، تقول لأحدهم أثبت لي أن لفلان ولاية تكوينية. فيذهب لقصة آصف بن برخيا. أنا لا أقصد آصف الذي عنده علم من الكتاب، والذي أعرف قصته تماما، والعلم يبقى علما، وليس ولاية تكوينية. طيب، أين دليلك على أن فلان يمتلك ولاية تكوينية؟ هل ذكر الله ذلك نصا في القرآن، أم أنها مجرد أمنيات؟ وتطول السالفة، ولا نصل إلى دليل قطعي الدلالة، غير تجيير المعاني والاحتكام إلى مغالطات منطقية أخرى.

مغالطة الشخصنة «argumentum ad hominem»، إذ يعمِدَ المغالِطُ إلى الطعن في شخص القائل بدلًا من تفنيد قوله. مثلا، عندما تأتي بنظرية لابن خلدون، التي لا تزال تدرسها الجامعات الأكاديمية، يترك المغالط النظرية، ويطعن في ابن خلدون بأنه ناصبي. وما دخل ميولات ابن خلدون الشخصية في السالفة؟

نكتفي بهذا القدر من الأمثلة والشرح، وإلا هناك أيضا مغالطة سد الذرائع، والاحتكام إلى الجهل «مثلا، هل تستطيع أن تثبت عدم وجود عذاب القبر. طيب، اثبت أنت وجود هذا العذاب بدليل لا يخفى على أحد».

في النهاية نستنتج أن أكثر العقائد لا تستقيم مع المنطق، ولذلك يصر الكثير منها على تحريم الفلسفة والمنطق. والبعض منهم يدعي وصلا بالفلسفة، ولكنه يلغي الضوابط التي نص عليها أرسطو لضبط الفلسفة، ومن ضمنها هذه المغالطات الكثيرة.

سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل