آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 7:26 م

الانفعال السلبي.. بين التأصيل والتهويل.. حَدَثٌ وحَدِيثٌ ”45“

عبد الله أمان

مِمّا تعلّمناه في مَنهجِ العلومِ، في المدارس، نظرية العالِم الإنجليزي، إسحاق نيوتن، في ظاهرةِ الجاذبيةِ الأَرضيةِ، التي اكتشفها في القرن السابع عشر الميلادي؛ والتي تنصّ على أنّ: «لِكلّ فِعلٍ رَدّ فعلٍ، مُساوٍ له في المِقدار، ومُضادٍ له في الاتّجاه» … هذا القانونُ الربّانيُ الخَلْقِيُ المُكتشَفُ صُدفةً، قد حَباهُ الخالقُ - عزّ وجلّ - للجاذبيةِ الأرضيةِ؛ لحِكمةٍ لَا تُدركُها عُقولُ البشر؛ حَيثُ لَا تَبقَى الأجسامُ ثَابتةً مُعلّقةً في أفقِ الغلافِ الجوّي للأَرض، بل تنجذبُ تِلقائيًا؛ وتسقطُ إلى القاعِ، مَا لَم تكنْ هُناك قوةٌ مُضادةٌ، تُقاوِم، أو تُلغِي، أو تُحايِد قوّةَ تأثير الجاذبيةِ الأرضيةِ القائمةِ… غَيرَ أنّ القانون الطبيعي لرُدودِ الأفعالِ المُحدَثَةِ، ومِثلها الاستجاباتِ المُنفلِتةِ، قد لَا يَنطبقُ، ولَا يَتناسَبُ حَرفيًا؛ ولَا يتَماشَى استخدامُها طَرديًا، في وَاقعِ حَياةِ البشرِ، فِي ظِلِّ عَلاقاتِهم الودّيةِ، وسَيرِ مُعاملاتِهم المُتحضّرةِ، وسَائرِ أحوالِهم الشخصِيةِ، اليوميةِ المُتداولةِ! فهناك باقاتٌ جَمّةٌ مِن أطيافِ عُقودِ اتفاقياتٍ، وبُنودِ صَفقاتٍ، وأُصولِ مُفاهُماتٍ، ونُصوصِ مُعاهَداتٍ، تَضمنُ، في دَوائرِ أُطُرِها، الأخلاقِيةِ الآمنةِ، سَلامةَ الحُقوقَِ الإنسانيةِ الثابتةِ بموجِبها؛ وصِيانةِ، واحترامِ، ورِعايةِ سَائرِ المُمتلكاتِ العامةِ والخاصةِ؛ وتَصونُ حِمايةَ الأَنفُسِ المُحترمةِ، في كلّ زَمانٍ ومَكانٍ...!

وأَودّ هُنا أَصَالةً، في صَدرِ خَاطِرتي المُتواضِعةِ، أن أركّز على الاستجاباتٍ ورُدودِ الانفعالاتِ الشخصيةِ الراجعةِ، التي عَادةً مَا تَصدُر إيجابيًا مِن سُلوكِ الفردِ المُتلقّي نفسِه، عندما يُواجِه أمرًا مَا؛ أو يَرى نفسَه مُقحمًا دَاخلَ دائرةِ مَوقفٍ حَرِجً مَا، يَحتاجُ مِنه لِزامًا، إلى اتّخاذِ تصرّفٍ رَزين؛ وانتهاجِ شَجاعةِ مَسلكٍ رَصينٍ، يتّسمُا بالحِكمةِ؛ ويتّصفُا بالألمعيةِ؛ غَيرَ أنّ المُشاهَدَ، والمألُوفَ، في خِضمّ مُعتَركِ الحياةِ اليوميةِ، أنْ نرَى صَفًا مِن عامةِ الناسِ، وقد غَلبتهُم صُرعةُ الانفعالاتِ الحادّةِ؛ وأسرتهُم نَوبةُ الصّراخِ المُرتفعةِ؛ فيصدُر مِنهم زخمُ نَوباتٍ مِن تَصرفاتٍ رَعناءٍ؛ وهجماتٍ مِن سُلوكياتٍ هَوجاءٍ، قد يَتبَعها النّدم؛ ويُلاحِقها الأسَف، تباعًا…!

ولَعلّ هُناك رَابطًا مَفصَليًا، ينظّم بتروٍ؛ ويتحكّم برزانةٍ، في إدارةِ حِدّةِ الانفعالِ السلبي، مَحفوظٌ أمانةً، في قَبضةِ يدَ الشخصَ الرزِين؛ ومَصفوفٌ ذَاتِيًا، في ناصِيةِ فِكره النيّر، بَعدمَا أغرقتهُ إيلَامًا وقدْحًا، استِرسالُ سَفاهةِ الشخصِ الطائشِ الفاحشِ أَمامَه - أيًّا كانت مادةُ مَوضوعِ المَوقفِ الماثلِ - بسكبِ وَقودٍ حَارقٍ، قابلٍ للاشتعالِ؛ ليُراقِب المُتسبّب، بنَذالةٍ وخَسَاسةٍ، فَرقعةَ الانبجَاسِ؛ ويَستَهوِي دَويّ الانفجَارٍ الوشِيكَين، رَيثما يقتربُ رُويدًا مِن قوسِ مُحيطهِ المُتأزّمِ قَدْحُ عُودِ ثِقابٍ…! ليتَفاجَأ المنفعلُ الغاضبُ بباقةٍ مُثلَى مِن ناضجِ البَوحِ مِِن الردّ الإيجابي الراقي، المُقدّم في حُلّةٍ قَشِيبةٍ، مُخالفًا في إخراجهِ المُقنِع؛ ومُعاكسًا في نسقِ صِيغتهِ الجذّابةِ، تمامًا، لنطامِ قانونِ الجاذبيةِ الفيزيائي - الميكانيكي المُنفلتِ... وهُنالك، في مُحيطِ دائرةِ المَوقفِ الحَرِجِ القريب، تَقوَى وتَثرَى شَوكةُ الشخصِ الحكيمِ الرزينِ، بعدمَا تَقزّمت وتَقصّفت أشواكُ المُهاجِمِ الثائرِ آحادًا؛ ورمَت بزُعافِ سُمومِها الفتّاكةِ في أدراجِ الرياحِ؛ وبعدمَا خمدَت جَذوةُ النارِ المُشتعلةِ لهُنيهةٍ، مِن أمامِه، راقَ ”للمُهاجَم“ المُتيقّظ آنذاك، ضَبطُ شبكةِ أعصابِه؛ وإراحةُ نَفسه؛ وتقويةُ أنفاسه؛ وتعبَئةُ فِكره؛ لمواجهةِ واتّقاءِ سِهامِ الشررِ المُنفلِتةِ نحوَه عُنوةً... فبَدلَ الردّ العنيفِ - المُتوقّع مِن المُهاجِم - تَرى المهاجَم قد صدّر دبباجةَ ردّه الأنيقِ، بلطفِ السّماحةِ، وطيبِ المَشاعرِ؛ وأريحيةِ صِدقِ العواطِفِ… وقد داعبتهُ إيناسًا ويقِينًا، خُلاصاتُ المَنطقِ السليمِِ، بعباراتِها البلسَميةِ المُهدّأةِ - لُغةً، ودِيباجةً، وإِشارةً - في أنصعِ أيقونات صُوَرِها الجاذبةِ المُتعدّدةِ، مِن أطيافَ بارقاتِ نُصحٍ، وأصنافِ باقاتِ إرشادٍ، مَصحوبةً بابتسامةٍ صَادقةٍ - إن سَمح المَوقفُ بذلك - وسَعةِ صَدرٍ ألمعي، وفَهمٍ راقٍ؛ وتحليلٍ ذكِيٍ، لفَورةِ مُهيجاتِ، وثَورةِ مُبرّرات انفجار الموقفِ الطائشِ للطّرفِ المُقابل؛ مَحفوفَةً بمَسحةٍ عَقلانيةٍ، تُخفّفُ نزقَ التوتّرِ؛ وتَضعُ حَدًا وِقائيًا لتفاقُمِ ضرَرِ الشرَرِ المُتطايرِ؛ لتضعَ بشفافيةِ رائقةٍ، إكسيرَ ”مَرهمٍ“ مُسكّنٍ، يُلطّفُ مٍن شدّةِ حَرارةِ الغليانِ اللحظِيةِ القائمةِ… وهُنالك، يتمّ بيُسرٍ وبساطةٍ، حَقنِ مَصلِ أوّلِ إبرةِ مُخدّرٍ؛ ليخطُو بعدَها الشخص المُنفعلُ ”البادِي“ إلى مَحطّ خُطوةٍ تَاليةٍ مُرتقبةٍ، رُبّما تجدُ مَوطئَ قدمٍ أكثر ثَباتًا، وأنعم إِراحةً، وأَحمّ احتضانًا…!

ولَا أكادُ أنسَى مَوقفًا مُحرِجًا حَدثَ لي، قَبل عَقدَين مِن الزمن ”بَطلُه“ أحد زُملائي في العمل، حيثُ كان يُقابلني بمُضايقاتٍ شتّى، لَا تتناسَبُ ومُستوى وَجَاهةِ وظيفتهِ الاجتماعيةِ… يَراني ظَنِّيًا - في تَلافيفِ عقلهِ الباطنِ - أنّي أخالفه في ”طَريقةٍ ومَسلكٍ“ ويكِيل لي في مَطلعِ كلّ يومٍ مُضايقاتٍ مُختلفةٍ؛ وكنتُ أقابل صَنِيعَه ”الشاطِح“ برِدةِ التجاهُل، ومَسحةِ التغافُل المُبرمَجين، مُبارِكًا لنفسِي المُتواضِعةِ، بالشعورِ بالانتصارِ الداخلي المُتيقّظ؛ وأرَى زميلي في قاعِ بَوتقةِ غلَيانٍ مُستمرّةٍ، وتَفنّنٍ في افتعالِ وانتحالِ نمطِ مُسلسلِ المُضايقاتِ - الصّاغِرةِ الهَوجاءِ، في مَقرّ العمل؛ وفي طَريقي إلى المنزل، بعدَ نهايةِ الدوام… هذا، ولمّا ”طفح الكيل؛ وبلغَ السيلُ الزّبَى“ عَزمتُ الأمرَ على مُقابلةِ مُديرِ الإدارةِ، وقد عَرفتهُ بالحزمِ، والتفهّمِ، والاحترامِ؛ فكاشفتهُ بالأَمرِ... وفي وَسطِ مَكتبهِ الأنيق، وَجدتّهُ قد أطرَق مُصغِيًا لإفادتي… ليفاجِأني بإفادتهِ الحكيمةِ: «إنّ سلسلة تَغافلك، وسُكوتك الواعِي المتّزن، في الردّ المُباشر، في وَجهِ زميلِك ”المُعتدي“ قد أشعَلتَ، بفعلهِ الشائن، جَذوةَ الاحتراقِ النفسي بداخِله؛ لتصدّر أَحقادُه ومَكبوتاتُه النفسية أكوامًا مِن الحَطبِ، تزيده ألمًا وضَيقًا واحتراقًا… وقد تعمّد مُضايقتَك لشخصِك، رَغبةً لاستِثارتك - ولَو مرّةً واحِدةً - مُنتظِرًا اجتِذابك إلى وَطرٍ ”صَارخٍ“ مِن خيطِ الانجذابِ اللحظي الواهِن، إلى جانب نَهجهِ ”المُتشدّد“ بِردّ الصاعِ صَاعَين، عنذئذٍ سَيصلُ إلى مُنتهى بُغيتِه…» ومَرّت الأيامُ، وأنا أبادِرهُ بالسلام في مَطلعِ كلّ صَباح، مََصحوبًا ببشاشةِ المُحيا؛ وصَفاءِ النيةِ؛ وكان يُراقبُ، بفُضولٍ وتَطفّلٍ، عن كَثبٍ، كفاءةَ أدائي الوظِيفي في العمل؛ وتقييمِ مُديرِي المُباشر؛ وانطباعِ زُملائي مِن حَولي، في مَقرّ مَيدانِ العملِ اليومِي… وبعدَها، بدأ يَردّ السلامَ بصوتٍ خافتٍ؛ إلى أنْ جَمعنا أداءُ عملٍ جَماعيٍ مُشركٍ، يتطلّب المُتابعةِ اليوميةِ؛ وإبداءِ التشاورِ؛ والإدلاءِ بوجهاتِ النظرِ… إلى أن بدأت جَذوةُ الاحتراقِ الذاتيةِ بداخِله، تذوي شَيئًا فشيئًا؛ حتّى خمدَت نارُها؛ وتناثَر بَقايا رَمادهَا المُتطاير، خارجَ مَقرّ العملِ…!

هذا، وفي أولويّاتِ مُصطلحاتٍ ”الطبّ النفسي“ المُعاصِر، يتصدّر مَفهومُ إعادة ”البرمجةِ الداخليةِ الذاتيةِ“ للانفعالاتٍ السلبيةِ المُتكرّرة، بمعية نَباهةِ العقلِ الواعي؛ لإحلالِ مَحلّها الاستجاباتِ الإبجابيةِ النيّرةِ، بعد أنْ تمرّ بمراحِلَ ”مُفلترةٍ“ مِنها: التدوِيلِ والتحلِيلِ، وبناءِ الثقةِ… وصُولًا إلى مرحلةِ مُتقدّمةٍ مِن التنويرِ الفِكري… وقد تأتي مَرحلةُ التنويرِ، في فَترةٍ مُتأخرةٍ في سِياقِ أولويّاتِ الاستجابةِ والقَبولِ الذاتِيَين؛ لتصحيحِ «مِنوالِ المُشاركاتِ السلبي المَنبوذ؛ وانتهاجِ سَويّةِ المَسلكِ الإيجابي المُوجّه…!

ويَبدو للعِيانِ أنّ مَوجةَ الغَضبِ، ونَوبةَ الهَياجِ الداخِليتَين هُما إحدَى مُخرجَاتِ حَتمِيةِ الانفعالِ السلبي ”المَرئيةِ والمَسموعةِ“ … وفي أَجملِ سِياقِ مَا تقدّم ذِكرُه، تَسمُو وتَتجلّى بأَصالةٍ ورَصانةٍ، دِيباجةُ الحديثِ الشريفِ، في مَتنِ ”أدبياتِ“ الطبّ النفسي النبوي: «ليسَ الشديدُ بالصُّرعةِ، إنّمَا الشديدُ الذِي يَملِكُ نفسُه عِند الغضَبِ».