آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 12:27 ص

أيتها السماء إنها أمي

عبد الباري الدخيل *

منزلنا لا يختلف عن كثير من المنازل المجاورة، فمكوناته تتكرر في كل منزل تقريبًا، فهناك الدور الأول، ويتكون من صالة الاستقبال «المجلس»، وصالة تفتح عليها كل مكونات الدّور، مطبخ، مستودع، غرفة غسيل الملابس، الدرج الموصل للدور التالي، والدرج المؤدي للقبو.

في الممر هناك مكتبة صغيرة، فيها مجلدات مختلفة: تفسير، حديث، وكتاب قصة الحضارة بأجزائه الكثيرة، وبعض دواوين الشعر العربي القديم والحديث، وروايات باللغتين العربية والإنجليزية.

في الرف الأسفل للمكتبة أسطوانات أصلية لموسيقيين كبار، مثل بيتهوفن وموزارت، ومغنين عرب كأم كلثوم وعبدالحليم وفيروز، بجانبهم طاولة تحمل جهاز مشغّل أسطوانات كان يسمى قديمًا «بشتخته»، وكرسي هزاز خشبي تعلوه مرتبة قطنية بلونها الأزرق السماوي الهادئ.

تزيّن جدار الدرج لوحات فنية تشبه اللوحات الأصلية المشهورة، فأبي الذي ينحدر من عائلة ثرية تأثر أيضًا من خلال دراسته في بريطانيا بالمدرسة التقليدية في الفن والموسيقى، وتشبّه بهم، ووزع ثقافته هذه على زوايا المنزل، فصار تحفة فنية.

وأمي لم تكن أقلّ مكانة من أبي فهي تنحدر من عائلة عريقة في العلم والأدب، فأبوها أحد وجهاء البلد، وعمّها شاعر معروف، وإخوانها يتقلّدون مناصب عُليا، وقد أنهت دراستها الجامعية في تخصص الأدب الإنجليزي، لكنها فضلت أن تكون ربة بيت، وأن تمارس دورها كزوجة وأم، بطيب خاطر، وسعادة غامرة، فقلبها النقي المفعم بالحب جعلها سعيدة بحياتها، راضية بمعيشتها.

عشرون سنة وأنا أتنقل في هذا المنزل الهادئ من طفل إلى صبي، إلى طالب في المرحلة الابتدائية، أكتب دروسي في صالة الضيوف حتى لا تفوتني حلقة الرسوم المتحركة.

أبي وأمي وأختي وأنا فقط نعيش في هذا المنزل، لكن لا صوت يعلو على صوت أبي، ولا مجال لمخالفة أمر أمي، وأختي التي تكبرني بسنتين تأخذ دور الأم في مساعدتي في بعض الأمور، ودور الأب في تقريعي إن أخطأت.

كانت السعادة تلف منزلنا من جهاته الأربع، فعلاقة أبي وأمي هي النموذج الأمثل للحب والاحترام، والحالة المادية توفر لنا ما نحتاجه، وموقع المنزل مع وجود الحديقة الغنّاء تزيد من فرصة الراحة النفسية، والانتعاش الدائم.

بعد أن أكملت دراستي للمرحلة الثانوية، قرر أبي أن ألتحق بالجامعة في تخصص إدارة أعمال:

? أحتاجك أن تكون مساعدي في إدارة الشركة في المستقبل.

? لكن..

? أكمل وكأنه لم يسمع «لكن»: إدارة الشركة تحتاج إلى دماء جديدة.

لم تكن رغبتي أن أدرس في هذا المجال لكنّ القرار صدر، ولا مجال للاستئناف، وإن كان لأمي محاولات خجولة، فهي تريدني أن أكون طبيبًا، لكن لا فائدة من طرق هذا الباب الذي أقفل قبل حينه.

وقبل رحيلي للجامعة بأيام حدث مالم يكن في الحسبان، فقد أصيب والدي بجلطة نقل على إثرها للمستشفى، وقد فقد الحركة في نصف جسمه، وتحول إلى جسد بلا روح، فعنفوانه وثقته بنفسه رفضت أن تراه بهذه الحالة، فتحول إلى شيخ عجوز خلال أيام فقط.

رفض أبي أن يستقبل الزوّار حتى لا يرى الشفقة في أعينهم، وأغلق علينا منزلنا حتى عن الشمس، فزحفت جيوش الحزن، وتساقطت حصون السعادة حصنًا فحصنًا، وذبلت الابتسامة في وجوهنا، وهربت ليالي الأنس من النافذة، ومضى النهار يتبع النهار، وجاء الليل ممسكًا بتلابيب الليل، ونحن كتماثيل الشمع نذوب.

وكاد يخنقنا الحزن؛ لولا أنّ أمي - لسعة أفقها وإداركها للأمور - رفضت أن تستسلم، وقاتلت ببسالة الفرسان، كانت قوية بما فيه الكفاية لتقاوم هذا الظلام الذي خيّم على منزلنا، وأن تضيء شمعة بدل أن تلعن الظلام، فقد شمّرت عن ساعديها، وحزمت أمرها أن تقاوم فلول الغزاة، وهجمات الانكسار، وقررت أن تتقدم وتضحّي بما بقي من قوّتها، وتقف في وجه الهزيمة التي اصطنعها أبي، وقررت أن تأخذ دور الأب وأشركتنا معها أنا وأختي في أدوار بسيطة لكنها مؤثرة.

يوم ذاك تغيرت حياتنا من أطفال يحفهم الدلال والرفاهية، إلى شباب يافعين يحكمنا دورنا في إدارة الشركة، ورعاية الأب شبه العاجز.

وماهي إلا أشهر قليلة حتى تمكنّا بمساعدتها أن نحيل جحيم العجز إلى جنة النجاح، وظلام الخوف إلى نور الأمن.

بدورها كانت أخبار نجاحنا تدعم روحية الوالد، وتجدد فيه حيوية العودة، والتغلب على صعوبة المرض.

لم يعد كما كان لكنه صار أفضل، واستفدنا من عقله الجبّار في الإدارة ليكون مرشدنا وقبطان هذه السفينة.

وعادت الشمس لتشرق في منزلنا، وصوت عبدالباسط عبدالصمد يردد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ .

وقد تقلصت مدة دراستي من أربع سنوات إلى ستة أشهر، وأصبحتُ المدير العام للشركة، وصارت أختي نائب المدير، وعادت أمي إلى عشها تمارس أجمل أدوار حياتها، الدور المحبب إلى قلبها «الأمومة».

التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
شريفه
[ صفوى ]: 22 / 9 / 2023م - 10:09 ص
كلام رائع انت تريد والله يفعل مايريد