آخر تحديث: 29 / 4 / 2024م - 8:50 م

في رحاب دعاء الإمام الحسين (ع) في صبيحة عاشوراء «9»

القيم المعنوية للدعاء:

الدعاء في مدرسة أهل البيت يتضمن الكثير من المعارف العقائدية والقرآنية والتربوية، والتي يصوغها الإمام بشكل دعاء يتعرف فيه على العظمة الإلهية في أحد جوانبها أو أكثر، فذكر الأسماء الحسنى في الأدعية تذكير ودعوة للتأمل في معانيها، وصولا إلى درجة اليقين والثقة التامة بالتدبير الحكيم والعادل وتصريف الأمور من رب العالمين، وهكذا بالنسبة للجانب الأخلاقي والتربوي فإن الأئمة يهدفون إلى تكوين ذلك المنهج الذي يسير عليه المؤمنون في حياتهم، بما ينتج عنه التحلي بالفضائل والكرامة الإنسانية وصناعة شخصيات قوية، شخصيات تحمل بين جنباتها القوة الإيمانية والروحية والنفسية لمواجهة الصعاب والأزمات بالاتكال على الله تعالى والعمل المثابر بالأخذ بالأسباب، وتلك النفوس العالية التي بذلت وضحت وسطرت المواقف البطولية في واقعة الطف كانت نتاج مدرسة الدعاء عند أهل البيت ومنهج أخلاقي تجسد في تصرفاتهم وأفعالهم، بما قدم المحجة الواضحة لأصحابهم ليسيروا في طريق تحقيق الإرادة الإلهية والتزام الأحكام الشرعية والتحلي بالمضامين التربوية التي تضمنتها القيم للدين الحنيف.

الدعاء عند أهل البيت مدرسة أخلاقية تعرف بمفردات الفضيلة والخصال الحميدة والوصول إلى الاتصاف بها واكتسابها، وعند ذكر وتعداد صفات الرذيلة والنقائص والعيوب إنما هو تحذير من المفاسد والضلال الفكري والانحطاط الأخلاقي الناجم عنها، فهناك طريق السلامة والنجاة والنجاح وذلك عندما يحكم الإنسان عقله وينظر للأمور بفطنة وينظر للعواقب المترتبة لأي كلمة أو خطوة عملية «موقف وتصرف» يصدر منه، وهذا ما ينتشله عن وحل الأخطاء والخطايا وينزه جوارحه عن مقاربة الباطل والمنكرات، وما يحذر منه الأئمة هو تحكم الأهواء والشهوات في تصرفاته واختياراته وقراراته، فلا يجد أي مستند عقلي أو شرعي لموقفه ويبهت ويفحم عندما يسأل ويحاور حول ذلك.

ولهذا نجد في دعاء الإمام الحسين ما يدعو إلى التذكير بحاكمية الله تعالى وتدبيره لهذا الكون الوسيع، وأن هذه الدنيا المتصرفة بأحوال الناس بتقلبات وتلونات في أيام أعمارهم، هم في النهاية سيقدمون على الجبار القهار في يوم القيامة وسيخضع الجميع للعدالة الإلهية تحت مظلة المساءلة والمحاسبة، وهناك لا مجال للتمويه والخداع والإنكار والمحاججة بالباطل أمام تعدد الشهود على الإنسان ومنهم جوارحه التي خضعت لإرادته في الدنيا، وهذه الأزمات في حياتنا لها وجه ظاهر يحمل الهم والكدر والألم لا يمكن إنكاره والتغافل عنه في النظرة الواقعية لها، ولكن وجهها الباطني تحمل فيه التذكير بحقيقة ضعفنا وافتقارنا إلى الرحمة واللطف الإلهي، كما أنها تجربة عملية تختبر قوانا النفسية والإيمانية وصدقنا مع الله تعالى في المواجهة والبحث عن المخارج الممكنة والسير بما يرضي الله تعالى.

هذه المضامين العالية تمثل درع وقاية من الوقوع في الشرور والطغيان النفسي وتحجز عن الاعتداء المعنوي والمادي على الآخرين في حقوقهم وممتلكاتهم وخصوصياتهم، ومتى ما استوعب المرء هذه القيم استطاع أن يرتقي بنفسه في مصاف الألق والتكامل والاستقامة، ولكن هناك من هو مكبل بأغلال النفس الأمارة بالسوء والأهواء فتصده عن الحق والاستماع إلى النصيحة والكلمة السواء، وهذا ما يفسر تلك المواقف المعرضة والعدوانية من الخطاب الحسيني المصاحب لنهضته، إذ كان يرفع صوته عاليا بالدعوة إلى الاستماع والاحتكام لكتاب الله تعالى والرجوع إلى التوجيهات النبوية وبناء الموقف والرأي بناء عليها، ولكنهم قابلوها بالصدود وآثروا العمى والضلالة لأنها تتوافق مع مصالحهم، وهذا الصدود يشكل نتيجة طبيعية لما كانوا عليه من سبرة تتبع الأهواء وتستطيب المنكرات والرذائل. وهكذا جابهوا دعوة ومدرسة الوعي وإيقاظ الضمائر واستعادة الرشد العقلي التي قادها الإمام الحسين ، وغلبوا الجهالة والانقياد الأعمى للأهواء والتحرك وفق شهواتهم وإن أوصلتهم إلى غضب المعبود عز وجل.