آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 8:26 م

الألم‎

أشواق آل عبد الباقي

من البديهيّ أن يمرّ أي إنسان في هذه الدنيا بلحظات من الفرح والسعادة، ولحظات من الحزن والتعاسة أيضا، والمناسبات السعيدة في حياته عديدة، كفرحة النجاح والتفوق في الدراسة، والترقية في مجال العمل، وفرحة الزواج وقدوم مولود حديث، وعودة غائب من سفر بعيد والانتقال إلى بيت جديد والشفاء من مرض شديد، وغيرها الكثير من المناسبات المُفرحة، ولكن هنالك شيئاً يُعكر أجواء السعادة تلك ألا وهو الشعور... بالألم، فالألم يُحيل تلك اللحظات الجميلة، والتي يُفترض أن تكون سببا في إدخال السرور على قلب الإنسان، إلى مناسبات عادية ”تمرّ مرور الكرام“ لا شيء فيها ولا طعم لها أو اختلاف!

الألم... ذلك القائد المُربّي والمُعلّم الفاضل، الذي يقسو علينا من أجل أن يُهذّب نفوسنا، ويمنحُنا دروسا في الحياة، إن الذين تخرّجوا من جامعة الألم هم أساتذة وحكماء ومُثقّفون، فلولا الألم ما كان العظماء والفلاسفة والكتّاب والرسّامون والمُفكّرون، فخلف كلّ إبداع وجع وحرمان، والإنسان العظيم ما كان ليكون عظيما لو لم يكن قد ذاق مرارة الدنيا وقسوة البشر، فإذا أردت أن تُفتّش عن العظماء، ففتش عن الألم والمعاناة، الألم ممرّ لخلق مجتمع إنساني محض، كل فرد فيه يشعر بالآخر، يعطف الكبير فيه على الصغير، ويرحم فيه الغنيّ الفقير، ويُواسي فيه المُتمتّع بالصحة والعافية أخاه العليل، هو الوجع ولا شيء غيره يجعلنا نُدرك كُنه هذه الحياة وما هي؟ وكيف هي؟ يمنعنا من ارتكاب الآثام والشرور، يُروّضنا ويكبح جماح الغرائز والشهوات فينا، يزرع فينا خصالا حميدة، يُطهّر قلوبنا لتغدو صفحة بيضاء كقلوب الأطفال، قلوب لا تعرف الحقد ولا الحسد ولا الخُبث ولا العداوة ولا النفاق! فما يُحدثه الألم داخل نفوسنا يعجز عن القيام به أي شيء آخر.

صحيح أنّ الألم شعور قاس، إذ يحرمنا من الاستمتاع بالحياة، بيد أنه جزء من كينونتنا، ولابد لنا أن نمرّ بتجربة الإحساس به، فنحن كبشر خُلقنا وخرجنا إلى هذه الدنيا والألم يُرافقنا، فما بكاؤنا وصراخنا عند الولادة إلا من الألم، الألم الذي سبّبه انتقالنا من حياة الأمان والطمأنينة داخل أرحام أمهاتنا إلى خارج تلك الحياة الآمنة، إلى الدنيا وأقدرانا التي تنتظرنا فيها بخيرها وشرّها وحلوها ومُرّها!

عزيزي القارئ، هل جرّبت مرّة ألم وخز الإبرة؟ هذا الألم أو الوجع الذي سبّبته تلك الأداة ”أو ما يُعادلها“ يُؤثر تأثيرا لا يُستهان به على الإنسان، فيُنسيه كل الأشياء الجميلة والأمور الشيّقة والمُثيرة التي حصلت معه في أقلّ من ثانية! فكيف هو الحال بآلام كأحجام الجبال في عظمتها، والتي تُكوّنها المصائب في نفوس البشر ليس في بضع ثوان فحسب، بل على مدى سنوات كثيرة.

فكلما زادت حدة الألم قلّ الشعور بالسعادة والبهجة والمُتعة في كل شيء، حتى يكاد أن يكون ذلك الشعور بالمُتعة شبه معدوم أو - يكون بالفعل - معدوماً تماما.

إنّ ما يُسبب الآلام لنا أمور تحصل أحيانا تكون خارجة عن إرادتنا ورغباتنا، أو نكون مُجبرين على التعايش معها وتحّملها مهما كانت النتائج وهي مختلفة في حدتها أو شدتها، فمنها الآلام الشديدة القاهرة التي يشيب لها شعر الرأس والتي تسببها المصائب كفقد الأحبة وكل عزيز على النفس، ومنها الآلام المُتعارف عليها والتي يمرّ بها معظم الناس، كألم الإخفاق في الدراسة وفي الحياة وفي التربية، ألم الفراق والصبر على الأذى، الألم الذي ينشأ في النفس من الفقر والعوز وضياع الأموال، الإحساس بألم الذلّ والعبودية، والشعور بالألم الذي يُتعب القلب ويُحزن النفس من عداوة الأقارب ونكران الجميل والمعروف وغيرها الكثير والكثير من تلك الأمور التي تسبب آلاما نفسية شديدة، وتلك الآلام تُؤثر على جسم الإنسان فتضعُف مقاومة جسمه للأمراض، حيث لا يمكن الفصل بين الآلام النفسية والآلام الجسدية، فآلام الجسد الناتجة عن الإصابة بمرض معين أو نتيجة تعرض أجزاء من الجسم إلى ضرب أو رضوض، تؤثر كثيرا على نفس المُصاب أو المريض وعلى معنوياته، فيشعر بآلام نفسية حادّة يفقد معها الرغبة في النهوض من جديد، حتى إنّ رغبته في الحياة تتلاشى شيئا فشيئا،. فلا يعرف قيمة الصّحة إلا من فقدها وقيمة السعادة إلا من عاش المُرّ والحُزن، وقيمة الأموال إلا من خسرها، باختصار، نحن لا نعرف قيمة أي شيء إلا إذا فقدناه.

إنّ الألم أو الوجع يُسبّب الهمّ والغم؛ ولهذا فهو يكون ثقيلا على الشخص الضعيف والذي لا يقوى على تحمّله، إذ يتركه في حالة انهيار تام يائس ومُحبط، فيُبقيه طريح الفراش ليقع فريسة للأمراض الفتّاكة، وعلى النقيض منه ذلك الشخص الصّنديد ذو الإرادة الصلبة، والذي يتحامل على نفسه مُتظاهرا بالقوة، وتعلو شفاهه الابتسامة وهو في قمّة الألم والمعاناة، لأنه يُدرك تمام الإدراك بأنّ هذه طبيعة الدنيا ولا بد من التسليم والرّضا بما قسمه الله لنا، فحتما ستنقشع الغيوم يوما لتُشرق شمس الصباح من جديد، وتنجلي الهموم من القلب الحزين.

فما هي فائدة أو قيمة الألم؟ إنّ للشعور بالألم القوي وما يسبّبه من مُعاناة نفسية كبيرة فوائد على الشخص صاحب المعاناة نفسه، حيث يُؤثر وبصورة إيجابية عليه إن كان صالحا وطيّبا بطبيعته، فيُحيله إلى إنسان كلّه نُبل وإنسانية، وفي المقابل فهو يُؤثر بصورة سلبية على الإنسان السيئ أو من يحمل الخبث والشر في داخله، فيُحوّله إلى شخص حاقد وانتقامي! على كل، فإنّ المرور بتجربة مقاساة الوجع أو الألم - بصورة عامّة - تُعطّف وتُليّن قلب الإنسان لتُؤدّي به إلى الشعور بمعاناة وعذابات الآخرين، فيتألّم لآلامهم، يحزن لأحزانهم ويفرح لأفراحهم، يتجرّد من الأنانية وحب الذات ”الأنانية هي عدوة السعادة والإنسانية العظيمة“، فيُكرّس حياته لخدمة من يحتاجون المعونة والعطاء والشفقة. إنّ ما يُخفّف من الإحساس بالوجع فينا هو الاهتمام بنا وبمشكلاتنا، فاليد الحانية المعطاءة هي ما يتوق إليه كل مهموم وحزين، ولكنها مهما بذلت لا يُمكنها محو الأسى الذي خلّفه شعور الألم داخل نفوس المُتألّمين ولا بأس في ذلك، فشيء أحسن وأفضل من لا شيء!

إن التحلّي بالرّحمة هي كل ما ينبغي أن يكون عليه أبناء المجتمع على اختلاف طبقاتهم، فهي السبيل إلى تخفيف الألم عند البعض منا، أن يرحم بعضنا بعضا، ويعطف بعضنا على بعض، فالقلب الرحيم قلب طيّب، ودود وكريم، قلب يفيض بالعاطفة والإحساس والرّفق بالإنسان وبالحيوان على حد سواء، إنّ من يُعاني يشعر بمعاناة غيره ويتحاشى أن يؤذيهم هو بنفسه أو أن يكون طرفا في أذيّتهم، إن الرحمة بيننا ضرورية جدا فهي سبب في رحمة الله بنا وبالمخلوقات جميعها ”ارحموا من في الأرض يرحمكم ربّ العباد“. بفضلها تُصبح محبوبا وتهفو إليك قلوب المظلومين والمحرومين والمُعذبين؛ لأنهم قد فطنوا بأن لا أحد يستطيع أن يشعر بهم ويخفّف من آلامهم سوى ذاك الذي يفيض قلبه رحمة وعاطفة، فلا تتصوّر أبدا - عزيزي القارئ - أنّ من اكتوى بنار الألم والذي لم يذق مُرّ الألم متساويان في المنزلة أو في الطّباع... قطعا لا، فمن كان رفيقه الألم شخص لا يشبه أحدا ولا يُقارن بأي شخص آخر، لأنه غدا بفضل الألم إنسانا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فالألم عظيم في سطوته وفي جبروته لا يرحم أحدا ولا يستثني أحد، وإذا أرهق الألم الشديد شخصا وقصم ظهره، فلن تجد له شبيها في شموخ روحه وطهارة نفسه ونقاء سريرته ودماثة خُلُقه.

الألم يُوقظ فينا الضمير الإنساني الحيّ، فلا يشعر المرء بعذاب غيره إلا إذا تعذّب، فبعض الآلام تدفع بصاحبها إلى التلفّظ بـ ”هذا يكفي... لقد تعبت، أو... لقد اكتفيت، أو لقد تُبت...“ وذلك لأنّ شدّة الألم والعذاب قد جعلاه يصل إلى نقطة نهاية يصعب عليه بعدها تحمّل المزيد منهما، وهنا تتجلّى أهمية الألم والمُتمثلة في دوره في استفاقة الضمير وتهذيب النفس وتأديب السلوك الإنساني.

إنّ انغماسك في المعاناة تلو المعاناة يجعل منك إنسانا عظيما مُتفردا، وتجرّعك الألم تلو الألم يجعل قلبك رقيقا كنسمة هواء، وكلما اشتد الألم امتلأنا رحمة وفاضت إنسانيتنا، فنصبح بالتالي مُنجذبين إلى أولئك الذين يُشبهوننا في ظروفنا، وفي آلامنا فنتشارك معهم اللحظات الأليمة التي لا تُنسى! فالإنسان ذو الإحساس المُرهف والذي يحمل أوجاعا تفوق حمله وطاقته، يتأثر سريعا وبصورة عفويّة بكل إنسان يتألّم ويتأوّه من شدة الألم، بينما الفرد العادي أو من يتّصف بقساوة القلب، ولا يُبالي بأيّ أحد فلا يبدو عليه الاكتراث والاهتمام بأي شيء كان!

إنّ أولئك الذين يلجؤون إلى الانتقام من غيرهم بطريقة عنيفة وبالمكيدة بسبب خلافات بينهم، ويتلذّذون بالعذاب والمعاناة التي سببوها للآخرين من جرّاء انتقامهم الخبيث! أولئك لا يحملون في قلوبهم مقدار ذرة من رحمة أو إنسانية أو إيمان بالله تعالى، ذلك لأنّ الإسلام دين الرّحمة ودين الإنسانية، والله سبحانه هو ربّ الرحمة وهو الرّحمن الرّحيم والغفور الرّحيم، والفرد الذي يخشى الله تعالى يُلقي الله في قلبه رحمة تعمّ الجميع وتكفي للجميع.

إنّ الضربات التي لا تقتل روح الإرادة والعزيمة والإصرار لدى الإنسان، أو تُدمّره فهي حتما تُقويه وتجعله أكثر صلابة، والمؤمن لا يتغيّر مهما أثقلته هموم الحياة، ومهما اشتدّت عليه مصاعبها، ذلك لأنّ معدنه طيّب وقلبه مملوء بالرحمة مهما جابه، والألم مُفروض - في أكثر الأحيان - على أولئك الطيبين الأخيار، ذلك لأن قلوبهم رقيقة صافية كصفاء الماء، إذ لم تتمكن حقارة الدنيا من تلويثها وتخريبها، وصاحب الروح النقية دائما ما يُظلم ويُستغل ويُعتدى عليه... وبالتالي يعيش الألم والقهر في حياته.

قبل أن أختم حديثي هذا أودّ القول بأنّ أكبر مُسبّب للألم بالنسبة للإنسان هو الظلم بكافّة أشكاله وصوره، فبعض الظلم يُذيب القلب ويقتل الرّوح كظلم الإنسان لأخيه الإنسان بالنّيل منه ويشمل ذلك التّكلّم في عرضه والمساس بحرمته وحرمة أهل بيته، والتّشويه من سمعته وصورته والتّقليل من قدره وقيمته بين الناس لدرجة تجعلهم يكرهونه وينفرون منه!، والتقليص من حريته أو خنقها، والاعتداء عليه وسلبه حقوقه فيشعر المظلوم أو المُستضعف أو المُضطّهد هنا بآلام نفسية شديدة الوطأة، لا يعلم بمقدار أو حجم شدّتها على العبد المظلوم إلا الله تعالى، فلا يظن أولئك الظالمون بأنّهم بمفازة من العذاب أبدا.. ”وما مِن يدٍ إِلا يدُ اللهِ فوقها، وما مِن ظالمٍ إلا سَيُبلى بِأظْلم“.

فارحم تُرحم، ارحم من يستحق منك الرّحمة، والذي يدعو لك بالخير ولا ينكر فضلك عليه، ولا يؤذيك مهما كلّف الأمر، ارحمه كي يرحمك الله ويُيسّر أمورك ويُسهّل دروبك وينصرك على من يُعاديك، وتعلّم أن تشعر بالآخرين وتُراعي مشاعرهم وظروفهم، قدّر أوضاع أولئك المساكين الذين يعيشون على الأمل وفي انتظار الفرج، أولئك الذين يستحقون منك فعلا أن تكون بجانبهم مهما أشغلتك أمور الدنيا، الذين يتوقون لوقع كلماتك الطّيبة ذات الأثر الجميل الذي يُشفي أرواحهم المُنهكة من ظُلم الحياة وسطوة الجبابرة، وتذكّر بأنّ الألم مُتعب ومؤذ، يُؤذي قلوبنا ويقضي على أجمل ما فيها!، هذا الألم كفيل بزرع القلق والخوف والتّشتت والضياع، وكل المشاعر التي تُدمّر الإنسان وتحول بينه وبين أن ينجح في حياته أو أن يكون فعّالا في مجتمعه، وكن مع الله... يكن الله معك ويُخفّف عنك.