آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 11:51 ص

من النهب والتزوير الغربي الحديث

المختار موسى بوخمسين

تتراكم المؤشرات والحجج عن الجرائم العلمية والتزويرية للغرب المعاصر في حرف مسار التاريخ. فمن ناحية جاء توراتيو العصر الإمبريالي إلى مشرقنا العربي بجحافلهم الاستعمارية بالحديد والنار وبإزميل الأحافير الأركولوجية ليسلبوا الماضي والحاضر والمستقبل.

وقبلها عملوا في أوروبا نفسها، وكثفوا كل جهودهم ليحرّفوا تاريخ الإغريق تمهيداً لسلبه ونسبته لأوروبا ولأنفسهم لتغطية عقد نقصهم البربري. تلك العقد التي رماها بهم الإغريق بأنفسهم، حين قسموا العالم إلى حضارة وبربر. فكان الإغريق عندهم هم مركزها وكانت أقوام بلاد النخيل «سوريا الكبرى» وبلاد القبط «مصر» امتدادها. أما بلاد الغال «فرنسا وغرب أوروبا» المظلمة الرطبة الباردة فهي لا تنبت إلا البربري الأعجم.

وفي الواقع فإن الإغريق أنفسهم، ما هم إلا صنيعة الشرق بعينه. فهم على تواصل وثيق براً وبحراً بهذا الشرق. فمن البر تنعقد الطرق من الشام إلى آسيا الصغرى ثم إلى ثراقيا فاليونان. أما من البحر فإن السفن الكنعانية «أو الفينيقية كما يحلو لليونان تسميتها»، فهي كانت الرائدة في استكشاف البحر المتوسط منذ أبكر العصور. فالمشهور عن الكنعانيين، أنهم بحارة مجيدون في مدرستين مختلفين من الملاحة هما فنون الملاحة الساحلية وفنون ملاحة أعالي البحار. وقد استعملوا سفنهم المتنوعة التصاميم حتى اشتهروا بين الأقوام. فسجلات بلاد الرافدين ومصر واليونان وفارس تزخر بالثناء على إتقان الصنع ومهارة الإبحار.

أما صنعتهم الثانية، فهي صنعة الشرق العتيدة من الصين والهند، وصولاً إلى المشرق العربي. وهي التجارة. فحين كانت قوافل الإبل تسيّر من اليمن وعمان وبلاد الرافدين لتأتي بالخيرات الوفيرة إلى سواحل الشام ومصر، فإن السفن الكنعانية تكفلت بإكمال الخطوط التجارية عبر البحر المتوسط من شرقه إلى غربه.

إلا أن حدثاً استثنائياً وقع في نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد «بين 1200 و 1150 ق. م.» وهو ما يعرف بين المؤرخين بانهيار العصر البرونزي. ولا يسعنا هنا أن نفصّل في هذا الحدث الذي ما زال يكتنفه الغموض من حيث الأسباب والحجم، ولكن المؤرخين يتفقون على نتائجه الكارثية على الحضارات الراسخة آنذاك وهي حضارات المشرق عامةَ. أما أكبر المستفيدين منه فهم الحضارات الناشئة في اليونان وإيطاليا. ومعهما نجت بل ازدهرت المستوطنات الكنعانية في غرب المتوسط أي في المغرب العربي وشبه الجزيرة الأيبيرية وهذه المستوطنات صارت تعرف لاحقاً بالحلف القرطاجي الذي أخرجت لنا القائد القرطاجي الكنعاني حنابعل، قاهر الرومان.

حدث الانهيار هذا، «الذي قيل أن نواته اقتصادية، أو جيوسياسية، أو مناخية إلخ...»، حاله كأي انهيار كارثي، فأخذ ينشط جذوة الهجرة من المناطق المنكوبة إلى المناطق الآمنة، لا سيما الواعدة منها. ففي العقود بل القرون التي تلته، شهد العالم موجات من الهجرة نقل فيها أقوام الشرق كنوزهم العينية والمعرفية إلى اليونان وما تلاها. وهو أمر ولّد ديناميكية غير مسبوقة في غربي المتوسط. حيث أن معظم الإنجازات في غرب المتوسط جاءت بعد سنة 1150 قبل الميلاد.

ولو أردنا تعداد المواهب والسجايا التي ظهرت في الغرب بعد ”الانهيار“ فهي أكثر من أن يتسع المقام لذكرها. لكن أبرزها وأكثرها شهرة هو انتقال الأحرف الفينيقية في مناسبتين مختلفتين ومستقلتين إلى الغرب «فينيقيا هي بلاد كنعان كما عرفه اليونان». فالأولى والمشهورة هو إنتاج الأحرف اليونانية من الكنعانية الفينيقية حوالي عام 1050 ق. م. على ما هو مشهور. أما في الثانية، وهي الأقل شهرة فهو انتقال الحرف الكنعاني القرطاجي إلى روما بلغتها اللاتينية.

أما خبراء اللغويات فهم يشهدون أيضاً أن الكثير من الكلمات في اللغة اليونانية أصلها من الشرق، وهو أمر طبيعي ومعقول بالنظر إلى الحركة المفتوحة في البضائع والبشر. وكذلك يمكننا أن نجمل الشيء نفسه على صعيد العلوم والفلسفة.

وأما في العمارة فالرأي المستجد هو أن طرز العمارة اليونانية هي طرز مشرقية سورية أساساً انتقلت إلى الغرب مع ما انتقل، وليس ما هو مشهور بيننا أنها بدأت في الغرب وانتقلت إلى الشرق. فالعارف بدروب آثار سوريا الكبرى وآسيا الصغرى يشهد بذلك حين يرى الصروح العظيمة التي سبقت معابد أثينا بناء وتشييداً وليس معبد بعلبك إلا أعظم الشواهد على ذلك.

والطامة تأتي على أصالة الحضارة اليونانية حين يتأمل المرء بعض الأدبيات الغربية من نهاية القرن الثامن عشر، بأن الحضارة اليونانية حضارة إعجازية. لأنها ظهرت لوحدها وبعبقرية أهلها، وتطورت وازدهرت في زمان قياسي. وهي مسألة تتعارض مع مبدأ الدياليكتيكية التاريخية التي يبني عليها الغرب نظريته في التاريخ. وهي مسألة لم يعد الغرب المعاصر النظر فيها بجدية؛ لأنها مسألة كاشفة للعورات.

ولو أردنا أن نختصر، فإن مصائب المشرق، مع إقفال العصر البرونزي تحولت إلى فوائد عظيمة وجمة على اليونان. أما المتحصل من القول، فهو أن الحضارة سمراء البشرة كما يقرّ بذلك عالم الآثار والتاريخ البريطاني مارتن بيرنيل في كتابه: أثينا السوداء وهو كتاب أكاديمي ضخم جاء على 3 متون. والمتحصل أيضاً أن الحضارة اليونانية في صميمها وصلبها مشرقية المنشأ والهوى والتوجّه. وما أحدثته أوروبا الحديثة، ما هو إلا تغوّل على التاريخ والجغرافيا والبحث العلمي. مكنه في ذلك غياب الرواية المضادة وتفرد روايتهم للتاريخ على مر 3 قرون.

إذا فما نعيشه من واقع اليوم من تزوير غربي فاضح لحضارات الشرق يعود لسوء أحوال ورثة هذه الحضارات، لكننا لا ننسى محاولات أشقائنا في سوريا والعراق ولبنان لاستعادة هوية الأرض العربية بثقافتها العربية ولغاتها العربية. واستعادة أمجاد التاريخ القديم وأثره على سائر حضارات العالم لا سيما اليونان. والعمل يبقى مقل والطريق طويلة.

والله المستعان