آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 4:26 م

الأمانة في الغرب.. ما بين ألق الذكرى ودرس العبرة.. حَدثٌ وحَديثٌ ”54“

عبد الله أمان

تَتجسّدُ بامتيازٍ مَلحوظٍ؛ وتَتفرّدُ بإشادةٍ مَشهودةٍ، رُوحُ خُلَةُ ”الأَمانةِ“ السّمحةُ، كَواحِدةٍ مِن أسمَى، وأعلَى، وأرقَى أنماط المزَايا والرّتُبِ الأخلاقيةِ الحميدةِ، التي تُعلِي، وتَرفَع، وتُعِز مِن حَظوِ شأنِ كمال دَاخلةِ النفسِ البشريةِ، أنّى حَلّت بعَميمِ فَيئها الوارِف؛ وسَكَنت بحَميمِ دِفءِ مَزاياها المحمودَة؛ واستقرّت آمِنةً مُطمئنّةً، بمحاسنَ قَضّها وقَضِيضِها، في طُولِ وعَرضِ استقامةِ جَوهرِ السلوكِ الإنسانيِّ الفاخرِ… هذا، ولَيسَ حَملُ خلة الأمانةِ المُربّيةِ، مَزيّةً لحُسنِ وكرامةِ ذائقةِ رشادَِ الخُلُقِ الشريفِ فحسب؛ بل إطّارًا أنيقًا، لمنابعَ وأصولِ المُعاملةِ الشريفة الحَسنةِ، التي تمجّدُها، وتُكْبِرها؛ وتُكْثُر مَدحَها استحسانًا، باعتبارٍ وتوقِيرٍ مَرْضِيَين، عِند سَويّةِ وعَقليةِ سَائر الأعرافِ والأعراقِ، جُملةً وتَفصٍيلًا؛ وتّتغنّى جُموعُ الأناسِي طَوِيلًا، بأندَى وأسمَى رُيوعِ مُخرجاتها الفاضلة؛ وقد هَيّأَت وأََسّسَت، مُعطيات زَهو الأمانةِ المُحبّبةِ، بمَحاسِنها الجميلةَ الجمّةِ، أسوارًا عَاليةً مُحصّنةً مِن أواصِر الثقةِ، وعَلائق المحبّةِ، ورَوابط المودّةِ، بين أفرادِ المجتمعِ المُتآلفِ الواحدِ، جُملةً وتَفصِيلًا…! وعَادةً مَا تَترافَق وتَتصاهَر خُلةُ الأمانةِ، مَع نظيراتها مِن ثُلّةٍ الخِصال الفَاخرةٍ، مِن حِسَانٍ أخواتها، مٍن أُسرةِ الخُلَلِ الراقيةِ الساميةِ: كالصدقِ في حُسنِ القولِ، والاجتهاد في نِية الإخلاص في أداءِ العملِ، وإظهارِ وإشهارِ طيبِ المُعاملةِ الحَسنةِ، بين الناس…!

ولَا أَدلّ، ولَا أَبلغ مِن تَغلغُل ووُلوج رُوح الأمانةِ الخالصةِ المَحضةِ، في دَاخلةِ النفسِ الشريفةِ، لمقامِ نبيّنا الأكرم، عليه وآله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُر الميامِين، أفضل الصلاةِ، وأزكى التسليمِ، حِينما جَسّد - مَقامُه الشريف - الأمانة الحقّة، واحتضَنها مَنهجًا حَسنًا؛ وصَيّرها سُلوكًا مَشهودًا، منذُ نعومةِ أظفارِه، قلبًا وقالبًا؛ حتى إذا طلع على جُمعةٍ مِن القومِ، استبشروا بَشاشةً؛ وتهلّلوا فَرحًا؛ وأشاروا إليه بوُضوحِ قائم البنانِ الواثق: هذا هُو الصادقُ الأمينُ…! هذا، وللحديث عَن مَظاهرِ الأمانةِ في بلادِ الغربِ، فلها في قاع ذاكرتي، ذِكرى وعِبرة... ففي الربعِ الأخيرِ المُنصرمِ مِن سَبعينياتِ القرنِ الميلادِي الماضِي، كنت طالبًا مُبتعثًا حُكوميًا للدّراسةِ في جامعة ”نورث تكساس“ الأمريكية، بمدينة ”دِنتون“ وقد سَعِدت وأنِست بعددٍ مِن المَواقِف التي تجلّت فيها شموخُ الأمانةِ المحسوسةِ، مِنها على سبيل المثال: أنّه بعد وصولي إلى مدينة دنتون - الهادئة، برفقة الأسرة - وبعد أنْ أمّنْتُ السكن، إشتريتُ مِشطًا كَهربائيًا نِسائيًا مٍن الصدليةِ القريبةِ، وبعدَ استخدامِه قَرابة العام، توقّف المِشط عَن العمل فُجأةً، فأخذته بالفاتورة إلى الصيدلي بنيةِ إصلاحِه. هذا، وبعد أن تسلّمه الصيدلي، وفحص الفاتورة، قام بوضع المشط داخلَ كيسٍ قُطنيٍّ، وربطه بإحكامٍ، وأفادنِي: «بأنّ ضمان الجهار مَا يزال سَارِي المفعول!» وعلى الفور، سَلّمني مبلغَ الفاتور مَع الضريبة نقدًا؛ وأفادني بأنّ المشطَ المتعطّلَ سيُعادُ إلى الشركة المُصنّعة؛ وأشار إلى الرّف المُقابل قائلْا: «هناك أنوعٌ مُتعدّدةٌ مِن أجودِ الأمشاط المُماثلةِ، تخيّر لك مِنها مَا شِئت...! عِندئذٍ أكْبَرتُ أمانةَ الصيدلاني البائع؛ ومِثلهُ مَوقفَ الشركةِ المُصنّعة، حيث لم أعهد بدِقّةِ، وحَرفيةِ مِصداقيةِ تلك الخدمةِ الأمينةِ المُتاحةِ للمستهلكِ - مَا بعدَ البيعِ - مِن قبل…!

وتَتكرّر مَواقفُ ومَشاهدُ الأمانةِ، في مَرافق، ومَناحي المجتمع الغربي… ففي فترة دراستي في «السبعينيات» المُنصرمة، كنت لَا أستغني عَن استخدام الآلة الكاتبة؛ لإعداد وإنجاز وَاجباتي الأكاديمية، وعليه، اشتريت آلة كاتبةٍ جَديدةٍ، مُتواضعةِ السعر… وبعد استخدامِها قَرابة العامين، لفت انتباهي، ظُهور آلةٍ مُطّوّرةٍ، بريطانيةِ الصّنعِ، وكهربائيةِ العملِ؛ ففكرت باقتنائها، قبل مَوعِد انتهاء دراستي وعَودتِي إلى أرضِ الوطن؛ فذهبتُ إلى المتجر، وسألتُ البائع نفسَه عَن سِعر الآلة الجديدة ومُواصفاتها؛ وأفدتة، بأنّي اشتريت مِنه آلة، قبل عامين؛ فأجابني على الفور: «احضرها لي!» … وفي اليوم التالي، أحضرتها، وقام بفحصِها؛ وأشار عَليّ: «بإمكانك شِراء الجديدةِ، مع دفعِ فارقِ الثمن… عِندئذٍ، طُرتِ مِن الفرح، وأنا خارجٌ مِن المتجر بآلةٍ مطوّرةٍ حَديثةٍ… وفي الفترة ذاتِها كنت أمتلكُ جهازَ «استيريو» ليظهرَ في السوق جهازٌ جذابٌ مُطوّرٌ، فودّدت شراءَه، قبل مَوعدِ سَفري، إلى بلدي؛ وبالفعل، تمّ عرض القديم على البائع، وقَبوله، مع دفع فارق السعر… تلك هُما صُورتان حَقيقيتان مُزدوجتان ومُتطابقتان، تنبِئان عَن مُمارسةٍ وَاقعيةٍ صَادقةٍ، للتحلّي بخلة الأمانة، في مِهنة البيع والشراء المَوثُوقَتين، قَولُا وفِعلْا، وفي عُقر زخم أوساط المجتمع الغربي، ولَا غَرْوَ أن يَطيبَ للمُغتربِ المُبتهجِ، تناقلها وإشاعتها، بين أفراد شُخوصِ مجتمعِه، لَاحقًا.

وعَودًا حَميدًا إلى فترة دِراستي بأمريكا، أدركت أنّ خلة الأمانة تَبِيتُ مُدلّلةً مُنعّمة، بين أروقةِ المكاتبِ، وفي أجوافِ الأدراجِ الحُكوميةِ... ففي عام «1978م» أرسل لي المجلس البلدي، لمدينة دنتون - تكساس أمرًا بدفع رُسومٍ مُستحقّةٍ، بمبلغ «27» دولارًا، نظير استخدام الخط السريع، مُرفقًا بداخله ظرف بطابعٍ بريدي، بتسديدِ المبلغِ بشيكٍ بنكيٍّ… فقمتُ على الفور، بتَحريرِ الشيك، وإراسالِ المبلغِ المَذكور، وبعد فترةٍ، تفاجأتُ بوُرودِ رِسالةٍ في صُندوقِ بريدي الخاص بشيكٍ، بمبلغ دولارٍ واحد فقط، مُذيّلًا بخطابٍ، يُوضّح أنّ الشيك المرسل، بالمبلغ المذكور، هو مبلغ زائد، بعد مُراجعةِ جدول المُستحقّات، في مَاليةِ المجلسِ البلدِي…! هذا، ولم يَسعنِي ويًسعِفني الوقت، آنذاك، لصرفه في حِينه، ومَا زلتُ مُحتفظًا به، كَشاهدِ ذِكرى على مُستوى أمانة المعاملة المالية، في ربوع المجتمع الغربي الصاخِب…!

ولَا أكادُ أنسى زيارتي لسويسرا، في شتاء «1978م» برفقة ابنتي البِكر الصغيرة، والزوجة، أذ فور وُصولِي للمطار، استأجرتِ سيارةِ أُجرةٍ، ومَا إنْ استقلينا المركبةَ، أدار السائق مِقبضَ عَداد الرحلةِ؛ ومِن حُسن الحظِ أنّه يتكلّم الإنجليزية، فطلبتُ مِنه توصِيلي إلى فندق ”درجة ثانية“ … ففعل ذلك؛ وفورَ وصولي أخبرني عن الأجرة، مِن واقعِ قراءةِ العدادِ الرقميةِ، فناولته ورقةً نقديةً مِن فئةِ الخمسِ دولارات؛ ليُردّ لي بأَريحيةٍ مُحترمةٍ، مَا تبقّى لِي بالعملةِ المَعدنيةِ... ومَا يزال في جَعبةِ ذاكرتِي مَوقفٌ آخرٌ مُشرّفٌ، مِن ألمانيا، أذْ سَافرت، للعِلاج والسياحَة، برفقةِ الأسرةِ، لعامين مُتتالِيين، في فترة الأشهر الصيفية، وذلك قبل ثمانية أعوامٍ… وفي الرحلةِ الثانيةِ نبّهنِي الدليلُ هناك، بأن لدَى الحكومةِ الألمانيةِ قرارًا لصالح السائح، مَفاده: «إن المشتريات التي تبلغ فاتورتها خمسين ”يُورو“ فأكثر، يتسنّى للسائح طَلب فاتورة مَصدّقة، مِن البائع؛ لإدراج جُملة مَبالغ فواتيرِه، في قائمةٍ مُفصّلةٍ، قبل مَوعدِ مُغادرته؛ وتخصيصِ حَقيبةٍ لتلك المُشتريات؛ لتقديمِ الحقيبةِ مَع قائمة المُشتريات، إلى مَكتبٍ حُكوميٍّ في المطار؛ ليُعاين الموظفُ المُختصُ القائمةَ المُعدَّةَ، مع أصلِ الفواير؛ ويِلقي نَظرةً سَريعةً على المحتويات المُشتراة؛ ليصادِقَ عليها ويختمَها؛ ثمّ يتوجّه السائح إلى مَنضدةِ مَصلحةٍ حُكوميةٍ قريبةٍ؛ ليسترجع مبلغ الضرائب التي دفعها بالكامل…!» وبالفعل قُمت بتتبّع تلك الإجراءات الرسمية المُشار إليها؛ وتمّ استرجاع وإيداع كامل مبلغ الضرائبِ المدفوعةِ، البالغةِ نِسبتها «19%»، وبالطريقةِ التي يَختار السائحُ تحويلها لصالِحه: نقدًا، أو تحويله على بطاقة الفيزا…!

هَذا، ولعلّ مِن المُفيد ذِكره وتأمّله، نفسيًا واجتماعيًا، عَندما تتظافَر مَاثِل مَنظومةُ جُملة التشريعات المُطبّقة والقوانين الرسمية؛ لتصبحَ عُرفًا دَارجًا، وأصولَ مُعاملاتٍ لممارسةٍ عَمليةٍ رَاقيةٍ مُتعارَفةٍ، في أوساطِ مُجتمعٍ مَا، ترقَى بواقعِ الوَعي العامِ المُتحضّرِ المُتثقّفِ، إلى سَقفِ مُنحنَى الأمانةِ، المُتجسّدةِ الحاضرةِ، في طَيّات ناصيةِ العُقولِ الواعِيةِ… وإنّ أدنى خَللٍ أو شُذوذٍ مُخالِفين، يِواجَهان حَتمًا، بموجةٍ صَارخةٍ ”بتَقبيحٍ وتَوبيخٍ“ مُباشِرةٍ، تصدرُها تذكيرًا، مَراكزَ العقلِ الباطنِ؛ وتُحِدثُ هَجمةَ اضطرابٍ نوعِيٍّ مّماثلةٍ - فَرديةِ وجَماعِيةِ - المَرورِد، وقد يَستهجِنُها ويَزدرِيها الفردُ، مَع ذاتِه لِزامًا؛ ويَستقبِحُ فِعلها الشائِن الشاخِص، أفرادُ المجتمع الواعِين قاطبةً، واللهُ أَعلم…!