آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 11:51 ص

نزعة الفِطام.. بين الوِئام والخِصام.. حَدَثٌ وحَدِيثٌ ”55“

عبد الله أمان

الكُلّ مِنّا توقّف عَن دَورةِ الرّضاعةِ الطبيعيةِ، وهي الفترة التي يَتغذّى الطفل فيها ”اللّبن“ مِن صدر أمّه، عِند إكماله عَامين مِن كَرم ورِفد الرضاعة المُتواصِلة… وفِي ذلك حِكمةٌ إِلهيةٌ، مٌمنوحِةٌ للمولودِ الجديدِ، مِن صِغار ”الثدييّات“ الأُخرى مِن سَائر رُتبِ المَخلوقاتِ الربّانيةِ عَامةً، عَلى وجهِ البسيطةِ؛ لِمَا في ذلك مِن ضَعفٍ، وعَدم تَمكين، واستِعداد، وجاهِزية أعضاء الجهاز الهضمي ”الطرية“ للمولود الجديد، مِن القَيام بمَهامّ عمليةِ الهضمِ الكاملةِ؛ وامتصاصِ مُختلفِ الأطعمةِ المُعقّدةِ، التي يَتناولها باعتِياد، ”الحيوان“ البالغ مِن رُتبةِ الثديياتِ نفسِها... عَلاوةً على أنّ الطفل ”الرّضيع“ مِن بَني البشر، يَستلهِم ويَستشعِر باقةً سَنِيةً ربانيةً مِن فَيضِ مَشاعِر الأمُومة الكريمةِ الرحيمةِ، التي يُسدِيها بأَريحيةٍ وشَفافيةٍ قلبُ الأمّ الرّؤوفِ لمَولودِها الودِيعِ، مَع كلّ رَشفةٍ حَانيةٍ، مِن اللبن، تُهدَى إليهِ، عن طِيبِ خَاطرٍ؛ وتَهُبُّ نزعةُ الأم الرؤوم - مِن جَانِبها الأَغر - لإرضاعِه وإشباعِه طَوعًا؛ لتَهِبهُ استمراريةَ نِعمةِ الحياةِ؛ وتُرفِده بُحبُوحَةَ دَيدنِ البقاءِ، إلى أجلٍ مُسمّى، بمَشيئةِ ورِضَا، وإٍرادةِ الواحدِ الأحدِ…! عَلاوةً على مَا تقدّم مِن تَأسِيس، وتَوطِين، وأَنسَنةِ عَطاءٍ وَافرٍ، مِن فَيضِِ المشاعرِ الإنسانيةِ الرحيمةِ؛ فإن لَبنَ الأم، يَحوِي جُملةً مُغذّيةً مِن أهمّ العناصر الغذائيةِ الأساسيةِ، التي يِحتاجُها الطفل المَأثُور المَحبُور؛ لاستِهلالِ واستِمرار ِأُولَى مَراحلَ دَورة نُموّه البيولوجي الأوليةَ… وللهَ في سائرِ خَلقهِ شُؤون!

ولِمفهُومِ ”الفطامِ“ حِسّيًا ومَعنويًا، ووِجدانيًا مَحطاتٌ ومَنازلَ استثنائيةٍ، نترجّل عِند أعتابِها طَواعيةً، مِن قِمم مَراقٍ شُامخةٍ، وأنماطٍ وأساليبَ حَياتنا ”المُرفّهةِ“ المُعتادةِ… ولعلّ مِن أهمّها ذِكرًا، أداء الركن الرابع مِن أركانِ الإسلامِ، ألَا وهُو صِيام شهر رَمضان المُعظّم، الذي كتبه اللهُ - عَزّ وجَلّ - على أمّة نبي الرحمة، المُرسل للعالمين: مُحمد بن عبدالله، ومَا سَبقها مِن الأُمم، قال تعالى في مُحكَمِ التنزيل: «يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلى الَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ» * والشاهِدُ الوارِدُ في هَذا السّياق، هو أنّ فرضَ صَوم رَمضان بمَثابةِ مرحلةٍ قَصيرةٍ مِن ضَربِ ”الفطام الروحِي“ المُؤقّت، يُمْسَكُ ويُمْتنَعُ في ساعاتِ اليومِ المحدّدةِ، عَن مَلاذّ المأكلِ والمشربِ، وعَن سَائر المُفطِّرات، التي بيّنها الشارع المُقدّس بالتحرِيم… فمَا دَامت الحِكمة مِن مشروعيةِ شِرعةِ الصيام إلهيةُ المَصدرِ، فمِن وَعِي الحكمةِ الراشدةِ، أنْ يَجنِي العبدُ المُسلمُ رَيعِ فَوائدِه الجمّة: جِسمانيًا، ورُوحيًا، وأَخلَاقيًا؛ وفِكريًا؛ لتسمُو وتعلُو تلك المَنظومةِ المُنضّدةِ مِن عِقد المُفرداتِ العُليا المَعنيةِ، بسماحةِ خُلقَ الصائمِ الكريمِ، في إطارٍ رُوحيٍّ جَذّابٍ، يُغبَط الفردُ المسلمُ على حُسنِه الفائق؛ ويُحبَر على نَضارتِهِ الرائقةِ، جُملةً وتَفصِيلًا…! ويُساقُ بعَقلانيةٍ رَائدةٍ، إلى فِكر وسُلوك الإنسان المُتغطرِس، الذي يَرَى في منهج الإسلام العظيم مَسالِكَ تَخلفٍ، ومَحاجّ رَجعيةٍ؛ فقد آن لهُ الأوان، أنْ يَرتقِي دَرجةً عَقليةً حَكيمةً؛ ويَنشقّ جَِانبًا مُحايدًا عَن ضَبابيةِ فِكرهِ الأَرعَن؛ ليَرى - بحِلمٍ وعِلمٍ - في مَشروعيةِ فِطرةِ الصيامِ الإلهيةِ، طَهارةَ أبدانٍ، وحِفظًا وصَونًا، وعِلاجًا، ووِقايةً رَاشدةً لجسمِ الإنسانِ، مٍن مُختلف الأمراضِ الزاحفةِ الفتّاكةِ، والتي لِمنهجِ ”عِيادةَ“ الصيامِ الدوائيةِ، دَورٌ رَئيسٌ، في الشِفاءَ، والتخلّصِ مِن مُختلفِ قَوائمِ آثارِها الجانبيةِ… فهَا هِي دُولٌ شتّى مِن الشرقِ والغربِ، مِنها: اليابان وألمانيا، ترى في برنامحِ الصيام أسلوبًا عِلاجيًا نَاجِعًا، وقد أقرّته واستأنسته، كأسلوبٍ فَعّالٍ في عِلاج مَرض العصرِ المُستعصِي العُضال ”السرطان“ وقَد هَيّأت له مَراكز المَشافِي العلاجية، كَواحدٍ مِن أشدّ أمراضِ العصرِ تَصفيةً، وفَتكًا، وشَراسَةً…!

وتَتَصدّر بامتِيازٍ مَرمُوقٍ، صِدقُ أمانة الكلمةِ الطيبةِ؛ وتَرتقِي أصالةُ وإصابةُ بشَرفِ الكلِمِ الطيبِ؛ ويُندِى إظهارُ مَا في قَرارةِ دَواخِل النفس الآمِنةِ المُطمئِنّةِ، مِن فِعلِ الخيرُ؛ ووُرودِ مَنابعَ الإحسانِ؛ وإتيانِ مَا يُسعِد النفسُ مِن سَرائرِها المُبهجةِ؛ لتُرسِمُ تلك النّوايا النّضِرة العَطِرة - بدأبٍٍ واجتهادٍ، مُماثلَين، إلى إعادةِ ترميمِ ورصفِ دُروبِ الابتسامةِ الصادقةِ، وإشاعتِها في بُسُطِ رُبوعِ المُجتمعاتِ المُتآلفةِ المُتحابّةِ… وفِي جَانب ِصعيدِ الضفّةِ المُظلمةِ الكَالحةِ، مِن أَزْمَةِ اللّهو، ورِزء العبثِ، تتمّ بسفاهةٍ قُحّةٍ ”مُخاصمة وفِطام“ أشكال المُخادَعةِ المُقنَّعةِ؛ وتَطبِيع أنماط المُهادنةِ الواهِنةِ، التي تُنْتِن في أوج صَميمِ طيّاتِ آثمِ مُحتوى أجنداتها المُتضاربة: السعيَ المتعمّدَ إلى بَثّ جُذورِ الكراهيةِ؛ وتَمزيقِ لُحمةِ المُجتمع؛ وتِفريقِ وَشائجَ شَملِه… وقد ’خاصمت" قَوائمُ تلك الأَجنداتِ الغادِرةِ، قَطفَ وخَطفَ زَهو الابتسامةِ الصافيةِ؛ وقَايضتها قَسرًا، بإحلالِ مَا يُعكّر صَفوَ العيشِ الكريمِ؛ ونَشر مَا يُنفّر رَائق جِبِلّةِ أمزجةِ الشّخوصِ المُحترمةِ، في ظِاهرِ مَسارِحَ أوساطِ المجتمع…!

وهُناك فِئةٌ مُطهّرةٌ مِن خُلّصِ البشرِ، وقد اختارَهم واجتبَاهم الخالقُ - عزّ وجلّ - لتَبليغِ ونشرِ رِسالاتِه الربانيةِ السماويةِ، إلى جَميع أقوامِهم مِن بنِي البشر قاطبةً… وقد ”عَصمهم وفَطمهم“ مِن شَوائبَ الضلالِ؛ وأعلَى شَأنَهم؛ وأعزّ مَراتبَهم، بين سَائر الناسِ أجمعَين؛ وأجزلَ مَكانتَهم اللّائقةِ في الدّنيا؛ وأنعمَ مَثواهُم المَكِين في الآخرةِ؛ وقد كلّفهُم ببثّ رِسالاتِه الإصلاحِية، في شَتّى مَناكبَ أرضِه الواسعةِ، وبين جُموعِ الأناسِي وجَحافِل الأُمَم القائمة، وفي عُقر أوساطِ مَضاربِ المُجتمعاتِ الماثِلةِ التي أُرسِلُوا إليها، على وَجهِ الخُصوصِ… ولعلّ الكَثرةَ الكَاثِرةِ مِن أَقوامِ وعَشائرَ تلك الأُمم البائدةِ، قد ”خاصَموا“ وحارَبوا أُسُس الإصلاح؛ وهَدّمُوا قواعدَ الاستقامةِ؛ وقد ”سَرَحُوا ومَرَحُوا“ وعَاثُوا الفَساد والبَغي رَدَحًا، في دوّامةِ مَغبّاتِ الكُفر، ومُساندةِ وانتهاجِ مُسوّغاتِ الإِلحادِ، بفكرٍ مُتطرفٍ؛ وقَتلِ الأنبياء الأبرياء، بغير حَقٍ؛ وإزهاقِ الأَنفسِ المحترمةِ؛واتّباعِ سُلوكياتٍ مَاجنةٍ شائنةٍ؛ وقد حَاقّ بهم العَذابُ المُهِينُ؛ وشَمِلهم والدّمارُ الكُلّي المُستحقّين… وقد جَابهوا نِداءات صَوت الحقّ المُبين، بالصّدود والطّغيان؛ ونَبذوا وراءَهم بَوارقَ طَيف ”الصلاحِ والإصلاحِ“ بالتبختُرِ والتجبّرِ، والعُلوّ في الأرض؛ وقد نَسُوا وتَناسَوا - غَفلةً وتِيهًا - أنّهم مَعنيّونَ بعبادةِ الواحدِ الأحدِ، وإعمارِ أرض الله الواسعةِ؛ وإحلالِ الأمنِ والأمانِ؛ ومُخاصمةِ أشكالِ الفُجورِ والمُجونِ، بقضّها وقضِيضِها، و”مُواءمةِ“ أَنفسِهم؛ وتأليفِ قُلوبهم بمَا جَاءت وجَادت به تعاليمَ وهِداياتِ الصّفوةِ الخيّرةِ مِن ثلّةِ صُفوفِ الأَنبياءِ والمُرسلينَ البرَرَةِ، عليهم، وعلى نبينا المُصطفى الصّادق الأَمِين، أفضل الصلاة، وأتمّ التسليم.

وعَلى ضَوءِ سَاطعِ مِنوالِ الخَطّ الرّسَالي الربّاني لرِسالات الأَنبياء والمُرسلين، تتصدّر - بتصديقٍ واعتقادٍ تَامّين - ثلةٌ مُؤمنةٌ صَابرةٌ مِن حَفَدةِ الأَوصياءِ والصّلحاءِ، والصدّيقينَِ والتابعينَ؛ لتَأمُرَ بالمَعروفِ؛ وتَنهَى عَن المُنكرِ؛ وتَنشُرَ مَواطئَ الصّلاحِ؛ وتَسِيرَ في مَواكبَ والإصلاحِ، مَا استطاعت إلى ذلك سَبيلًا؛ وتُعبّدَ مَحاجّ الخَيرِ أنّى وُجِدوا، وحَطّت مَضاربهم الطّاهِرةِ المُباركةِ، في شَتّى أصقاعِ المَعمورةِ؛ لاتّباعِ واقتِفاءِ نَبيلِ خُطَى الأنبياءِ والمرسلينَ، بصَفاءِ نَوايا إيمانِيةٍ رَاسخةٍ؛ ونَقاءِ مَقاصدَ هَادِيةٍ صَادقةٍ؛ لأعلاءِ كلمةِ الحَقّ - تَبارك وتَعالى - وإشاعةِ مَنابعَ الفَضائل السامِيةِ، ومِثلها إذاعةِ المَحامدِ الشرِيفةِ، أنّى حّلّوا، بماثِلِ صَقعٍ مِن أصقاعِ المَعمورةِ؛ حَيثُمَا ارتحلُوا عَنه بعَطفِ ولُطفِ ألقِ ”كَارِيزمَا“ شُخوصٍهم العَفِيفة، ونَاضِحِ عُقولِهم النيّرة؛ بُغيةً جَادّةً صَادِقةً، في الابتعادِ الفارّ مِن اجتِراحِ جُرْم السيئاتِ الماحِقةِ؛ والفَرار بالوَرع الوَاعِي لمُجافاةِ اقترافِ الذنوبِ المُهلكةِ؛ والإرتقاءِ المُبادِرِ لمُواكبةِ نزعةِ التنحّي الهَارِبِ باستِقامةٍ مُستحقّةٍ، وإدراكٍ مُتيقّظٍ؛ لدَرءِ صَولةٍ طَائلةِ الآثامِ العِظامِ؛ وتَحقيقِ نَفرةِ الفَرارِ المُنجِي مِن مَغبةِ ارتكابِ الخَطايَا الجِسامِ… «وَالَّذينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ اَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» *

* سورة البقرة- آية 183
* السورة نفسها- آية 82