آخر تحديث: 27 / 4 / 2024م - 7:26 م

السكن النفسي والعاطفي

قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ﴿الروم الآية 21 .

الحياة الزوجية ليست بتلك العلاقة المثالية والتي يضرب فيها الخيال بجذوره، فيصورها بحياة سعيدة تخلو من كل أشكال الاحتكاكات والخلافات وسوء الفهم بين الزوجين، ولكن لغة الحب والتسامح هي ما تشير له الآية الكريمة بتصوير الزوجة بالسكن المعنوي الذي ينشد فيه الزوجان الراحة النفسية والإشباع العاطفي، عندما يتم الاختيار المناسب لشريك الحياة وذلك وفق أسس تتعلق بطريقة تفكيره ومستوى أخلاقه وعلاقاته الاجتماعية، فإن التقارب والانسجام بجميع جهاته يتم من خلال العشرة الجميلة والتي يبدي فيها كل واحد منهما الاحترام للآخر وتقبل شخصيته وظروفه، والتفاهم معه بكل أريحية وبساطة حول المشاكل الناشئة بينهما، بغية الوصول إلى قناعات مشتركة وحلول ممكنة ومرضية، فلغة الحب قرار وتنفيذ فعلي على أرض الواقع يتحرك مع الزوجين في كل أحوالهم وتصرفاتهم، فيبتعد كل واحد منهما قدر الإمكان عن دائرة النكد والغيرة المفرطة والتبلد العاطفي والإساءة للآخر، وتتحرك لغة الحب حين وقوع خطأ أو مشكلة بينهما متجلية بالاعتذار من المخطئ والتسامح من الآخر.

تنسج الآية الكريمة تعابير جميلة وصور بديعة عن علاقة الزوجين ومدى اتسامها بالانسجام والتقارب والعيش المشترك المستقر، إذ عبر عن المرأة بأنها من نفس خلق الرجل، وذلك لتقريب حالة التهيؤ النفسي والاستعداد لتقبل نصف الدور المناسب في العلاقة الزوجية، فالرجل يتناسب مع طاقته البدنية العمل في خارج المنزل والسعي الجاد في سبيل توفير مستلزمات الحياة الكريمة، فكل ذلك الجهد والتعب ينماث ويتبخر مع إيابه إلى المنزل واستقبل زوجته له بكل أريحية فتزيح عنه همه، وفي سيرة الرسول الأكرم ﷺ وعلاقته بالسيدة خديجة دروس وعبر فقد وقفت معه بكل قدرتها وما تملكه في سبيل الحفاظ على الدعوة الإسلامية، والتخفيف عنه ﷺ بعد أن يقابل من صناديد قريش كل ألوان الأذى والعدوان المعنوي والمادي، فكانت المأوى والكهف الحصين الذي يتلقى منه ﷺ العون وتجديد الطاقة والنشاط المجدد لدعوة الناس إلى التوحيد ومكارم الأخلاق، ولقد كان ﷺ في كل موطن ومورد يجدد ذكره بها بالإشادة بما كانت عليه من سمو ورفعة وفضيلة في سماحة النفس والصبر والبذل في سبيل الله تعالى.

وقد يطرح البعض تساؤلا واعتراضا يتعلق بالتأسي بهؤلاء العظماء ممن حازوا أعلى درجات الكمال والقرب من الله تعالى، ونحن يحيط بنا التقصير وارتكاب الذنوب وضعف الوازع الأخلاقي، فكيف يمكن لنا المقارنة في علاقاتنا الزوجية وما كانوا عليه من سعادة وأنس بما نحن عليه من نكد وخلافات ومشاحنات تتكرر باستمرار؟!

الحقيقة أن فهم التأسي بهم ليس بهذا النحو ولا هذه الصورة المطروحة، بل التأسي بهم هو شد الهمة وتقوية الإرادة لتطبيق وتجسيد مكارم الأخلاق والتوجيهات الأسرية التي نادوا بها وعملوا على تنفيذها، والاقتداء بهم هو الجد والاجتهاد والنشاط في طريق التأسي بهم في أبعاد حياتهم وسيرتهم بمختلف جوانبها، وكذلك تجد في تعاليمهم المتعلقة بالحياة الزوجية المشتركة ما يضعها على سكة الاستقرار والود والطمأنينة، فالحياة الزوجية في طريق إفاضتها الهدوء النفسي والشعور بالسعادة تخضع لمعايير مهمة، وأهمها التخلي عن الأنانية والنظر للأمور والعلاقات من طرف واحد هي مصالحه ومكاسبه الشخصية، كما أن التفاهم والحوار في وقت مناسب للطرفين يجنبهما الكثير من الخلافات والمشاكل الطارئة بينهما، كما أن التنازل ولغة التسامح تفسح المجال لإيجاد مساحة من الود والعمل بالحلول الممكنة.

وتأمل في التعبير القرآني ﴿لتسكنوا إليها أي السكن النفسي والعاطفي والأنس بوجود شريك الحياة الذي يشاطره همومه وآماله، فالحياة ميدان عمل يحتاج فيه المرء إلى الحكمة في الأخذ بالاتجاهات والقرارات، وقدرة نفسية لتحمل المتاعب والعراقيل ومواجهة التحديات والصعاب، وهذا المجهود لتحصيل لقمة العيش يستنزف طاقاته ويحتاج إلى أوقات راحة لتجديد نشاطه، والزوجة الناجحة تعيد له حيويته بكلماتها الرقيقة فتخفف عنه متاعب العمل، وكذلك الزوج الناجح يشارك زوجته متاعبها في إدارة المنزل وتربية الأولاد وتحقيق طموحاتها على المستوى الدراسي أو الوظيفي.