آخر تحديث: 28 / 4 / 2024م - 12:27 ص

رحلتي مع التدريس

ناجي وهب الفرج *

تحظى مهنةُ المعلم بحيزٍ ومكانةٍ وآثارٍ تبرز بشكل ملحوظ في تقدم المجتمعات الناهضة، وتسهم في تحقيق التنمية المستدامة وذلك عبر بناء الأفراد الفاعلين في تكريس تلك الغاية والوصول إلى المكتسبات المأمولة. إذ تعتبر هذه المهنة من أعظم المهن وأقدسها، فقد كانت مهمة الأنبياء والرسل والمصلحين على مر التاريخ، وهي من المحطات المهمة في حياة كل شخص والتي لن ينسى فيها مَن علَّمه وأَثَّرَ فيهِ علميًا وتربويًا مهما كبُر وتعلّى وتدرّج فِي المناصبِ والدرجات. فالتدريس هو علاقة إنسانية تفاعلية مستمرة تثبت من خلالها القيم والتوجيهات التي يتحقق من خلالها الأهداف المرجوة بطريقة أشبه ما تكون بالانتصار والإنجاز الكبير الذي لا يمكن وصفه. فالمعلم ممثل للقيم والمثل والمبادئ وقدوة حسنة لطلابه والقلب الرؤوف الذي يحتوي طلابه.

ولذلك قال الله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [الزمر: 9].

وفيما ورد في رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين زين العابدين - - في حق المعلم قوله:

”وأما حق سائسك بالعلم فالتعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه، والإقبال عليه، والمعونة له على نفسك، فيما لا غنى عنه، بأن تفرغ له عقلك، وتحضره فهمك، وتذكي له قلبك، وتجلي له بصرك، بترك اللذات ونقص الشهوات، وأن تعلم أنك فيما ألفي إليك رسوله إلى من لقيك من أهل الجهل فلزمك حسن التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته، والقيام بها عنه إذا تقلدها، ولا حول ولا قوة إلا بالله“، أما فيما ورد في حق المتعلم قوله سلام الله عليه: ”وأما حق رعيتك بالعلم فإن تعلم أن الله قد جعلك لهم فيما آتاك من العلم، وولاك من خزانة الحكمة فإن أحسنت فيما ولاك الله من ذلك، وقمت به لهم مقام الخازن الشفيق الناصح لمولاه في عبده الصابر والمحتسب الذي إذا رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه، كنت راشداً، وكنت لذلك آملاً معتقداً، وإلا كنت له خائناً، ولخلقه ظالماً، ولسلبه عزة متعرضاً“.

مارستُ مهنةَ التعليم لِمَا يَقْرُبُ من الثلاثة عقودٍ مِن الزمن الذي لن تتوقف عجلته في دورانها إلى ما شاء الله، تنقّلت فيها من صرح عامر إلى صرح زاهر آخر؛ قضيتها في تدريس مادة العلوم بكافة فروعها المختلفة من الأحياء ومراميها الوجدانية إلى الكيمياء ومبانيها القويمة عبورًا بالفيزياء وخيالاتها المبهرة وانتهاءً بالجيولوجيا وعمقها الزماني والمكاني؛ مبتغيًا وراءَ ذلك طاعة لربِّي وخدمة لوطني الذي احتضني وأعطاني كلَّ خيرٍ أنا فيه.

فَكَمْ كان يغمرني الفرح والمتعة بما كُنت أنثرهُ من معلومات رصينة وسلوكيات قويمة بين طلابي، فكم كنتُ أستشعر وينتابني زهوٌ كبيرٌ عندما أخرج من قاعة الدرس بعد انتهاء الدرس ومغادرة الطلاب منها؛ ملتمسًا منهم الإعجاب والتحايا التي لا يمكن وصفها؛ لتكون دافعةً ومحفزةً لي على بذل المزيد من العطاء والاستمرار. فَكَمْ كنتُ حريصًا على التهيئة للدرس وإعداد واختيار مدخلًا جيدًا يناسب ما سوف ألقيه عليهم من معلومات لتحفيزهم وشدِّ انتباههم لأجدَ منهم بعد ذلك القبول والتفاعل والاستمرارية في الانتباه حتى نهاية الدرس ولتكون الخاتمة ممتعةً والنهاية مثمرةً ومقنعةً. فَكَمْ كنتُ شَغوفًا في أَنْ أتشعب معهم أثناء عرض الدرس وإبراز ترابط العلوم المختلفة بعضها ببعض محلِّقًا بهم عاليًا في أعلى درجات سلم بلوم للأهداف السلوكية الذي يبدأ بمهارة التذكر وينتهي بمهارة الابتكار. فتراني تارة أتعمق في بيان مفردة لغوية وأرتكز في الوقت ذاته على قيمة دينية مستدلًا بآية قرآنية في هذا الموضع وحديث شريف في موضع آخر بغية ربطهم الوجداني بدينهم وتعزيز انتمائهم لوطنهم. كنتُ حريصًا على ربط طلابي بالواقع حينما أسوق لهم أمثلة حقيقية من واقعهم المعاش ساعيًا لجلب اهتماماتهم وتوجيهها ضمن السياق المطلوب ووضعهم على الجادة الصحيحة.

لم يكن تركيزي معهم على مصطلحات تربوية صرفة كنت قد درستها في مساري الجامعي بقدر ما كان اهتمامي الأول هو تطبيقها على أرض الواقع لأحرز وأتأكد من قابلية تطبيقها وتكييفها على حسب الحالة ومدى ما تتركه هذه المفاهيم من جدوى في انعكاسها على اهتمامات وسلوك طلابي؛حتى أتمكن من تحقيق ما أصبو له في ذلك من خلال السعي لتكوين علاقة تفاعلية مستمرة مع كل أطراف المنظومة التعليمية ككل بدءًا بالطلاب وأولياء أمورهم مرورًا بالمنهج واستحضار كل ما يعين على تقديمه بطريقة صحيحة، والاستفادة من الخبرات الموجودة من الزملاء من المعلمين الأكفاء الذين لم يبخلوا علينا بالتوجيه والتدريب بتجاربهم الثرة التي خاضوها وانتهاءً بالإدارة المدرسية التي كانت خير معين لنا في تأدية أعمالنا وتلبية متطلباتنا وتحقيق الأهداف والاستراتيجيات المرسومة من قبل الجهات المختصة. بل كنتُ حريصًا على انشاط العلاقات الإنسانية بكافة صورها مع الزملاء والطلاب وأولياء أمورهم في آن واحد سواءً كان ذلك داخل المدرسة أو خارجها. فكم كنتُ أحرص على مناداة طلابي بأسمائهم الثنائية أو حتى الثلاثية لأبعث لهم رسالة بأنني أعرفكم جيدًا وأنني أحترمكم لتوطيد علاقتي معهم بما ينعكس إيجابًا عليهم في تعزيز سلوكهم الذي سيسهم بالتالي على تحصيلهم وسلوكهم ويشعرهم بالطمأنينة والتي تجعل منهم مخرجات مثمرة ونافعة تجعل منهم بعد ذلك أشخاص فاعلين ومنجزين وعوامل بناء لوطنهم.

فكَمْ صبغت يداي ألوان الطباشير بألوانها الهادئة وتلونت بأقلام السبورة الناصعة وقد ذهلني بريق السبورة الذكية وفخرت بإمكاناتها الهائلة وغصت في مقاييس الفهرنهايت وبهرت بتصنيف القواعد والأحماض والكواشف، وجلت بالمجاهر متباهيًا، وعرضت آلة الاحتراق الداخلي مستمتعًا، وصلت بالأوراق في أروقة المختبر مخترقًا صفوف الطلاب منبهًا، وبينت عظمة الخالق عز وجل في خلق الإنسان مستنهضًا، هي الكيمياء كم بان فيها فني وغرامي، بل هي الفيزياء زاد بها عمق خيالي، وعلم الأرض كمل به هيامي، والأحياء تفننت برسم زهت به أفكاري.

فهذه السنون قد تصرّمت، والجسم بدأ يستشعر التعب، واعترته العلل، فكان لابد من الترجّل وترك الزمام لمن يكمل المسيرة من المخلصين من المعلمين الأكفاء وممن سوف يسيرون على الدرب، فكان في نهاية المطاف أن يكون قرار التقاعد من هذه المهنة العظيمة التي كونت ملامح قناعاتي وتوجهاتي. وإذا بطلابي يتخرجون دفعات تتبعها دفعات وأجيال تتلوها أجيال حتى لدرجة أنني لا تسعفني الذاكرة في كثير من الأحيان في معرفة بعضهم، لكن بقي الود قائمًا والوصل مستمرًا بيني وبينهم على الرغم من تقادم الأيام وتغير ملامح الوجوه وتباعد المسافات.

إلى أن حان الذهاب من هذه الرحلة الممتلئة بالتجارب والزخم الإنساني المتدفق الذي لا يقف عند حد فأنشئت هذه الأبيات:

وَحَانَ ذَهَابُ

بِصَفْوِ صَبَاحٍ سَقَتْنِيْ عِذَابُ
وَسِرْتُ بِدَرْبٍ طَوَاهُ كِتَابُ

وَدَارَتْ بِنَفْسِيْ شُجُوْنٌ تَعَدَّتْ
وَصِرْتُ بِجَعْلٍ وَحَانَ ذَهَابُ

وَمَا هَانَ لِيْ مِنْ فِرَاقِ لِقَاءٍ
عَلَىْ مَا وَفَاهُ بِجَمْعٍ صِحَابُ

تَرُوْمُ بِرُبْعِيْ عُزُوْمٌ تَعَالَتْ
تَلَاقَوا عَلَيْهَا بِجَمْعٍ شَبَابُ

وَذَبُّوا بِوِسْعٍ عَلَىْ مَا بَنَاهُمْ
وَأَسْقَتْ لَهُمْ مِنْ وَفَاءٍ سَحَابُ

وَدَارَتْ سُنُوْنٌ وَشَدَّتْ قِوَامًا
لَنَا مِنْ حَصَادٍ وَجَادَ صَوَابُ

فَعُذْرًا بِمَا كَانَ فِيْنَا بِقَصْرٍ
وَجُدْتُمْ سَمَاحًا وَرَاحَ عِتَابُ

رَكِزْتُ عَلَىْ مَا بَنَتْهُ عِظَامٌ
مَضَيْتُ بِعَزْمٍ وَزَالَتْ صِعَابُ

فَيَا سَالِكًا فِيْ طَرِيْقِ رَشَادٍ
تَحَزَّمْ بِعِلْمٍ خَطَاكَ سَرَابُ

عَدُوْهَا بِزَرْعٍ لَمَا قَدْ سَقُوْهُ
سَيَبْقَىْ لَهُمْ مِنْ نَصِيْبٍ عِنَابُ

فَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَا أَنْ تَحَامُوا
وَزَادُوا لِمَا قَدْ هَدَاهُمْ لِبَابُ

وَسَارُوا بِجُهْدٍ لِسَبْكِ مَعَانٍ
تَعَدُّوا إِلَىْ مَا عَلَتْهُ هِضَابُ

رَسَمْتُ الْحُرُوْفَ عَلَىْ مَا نَمَتْهُ
وَطَلَّ عَلَيْنَا بِبُعْدٍ غِيَابُ

تُرَاثٌ هَوَانَا لِمَا قَدْ رَوَانَا
وَمَا قَدْ بَنَانَا بِعُمْقٍ صِبَابُ

1- القرآن الكريم
2- رسالة الحقوق
التعقيبات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
التعليقات 1
1
ماجد المزين
[ المملكة العربية السعودية ]: 7 / 2 / 2024م - 7:28 ص
ختمت هذه الرحلة الرائعة يا أبا حسين بأسلوب أدبي رصين، فالأدب يجري في عروقك، والانسانية تتدفق من روحك الطيبة غيثًا عذبًا جميلًا، ولقد ترجلت من التعليم لتُكمل المسيرة في العمل الاجتماعي في خدمة أبناء مجتمعك وهكذا أنت دائمًا تبحث عن العطاء لتقدمه للآخرين .
نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العوامية الخيرية للخدمات الاجتماعية