آخر تحديث: 30 / 4 / 2024م - 9:26 ص

دارس تائه في بحر القصيدة ”حدثٌ وحديثٌ - 67“

عبد الله أمان

في بداية سنوات الثمانينيات المِيلادية، مِن القرن المِيلادي المُنصرِم، كُنت طالبًا مُثابرًا مُجِدًّا، أتردّد بطاقة عُنفوان الشباب الدافع؛ واتطلّع بعافية ”التلميذ“ الواثق، وأزاحم بأنفاس المُتعلّم النّهٍم، الذي مَا فتِئَ يتجرّع ظمأَ شغف حُلم الدراسة الجاذب، مُهرولًا لَاهِثًا وراء اجتناء وثيقة الشهادة الجامعية؛ وأتضوّر وَطأةَ الحاجة المُلحّة حينًا، للتعلّم النشط، كحاجةِ المريضِ السقيمِ الماسةِ إلى قرصِ ”الباراسيتامول”المُسكّنِ... وصِرتُ أُزاحِم“ناطقي اللّغة الإنجليزية”بين أروقة وأواوين إحدى الجامعات الأمريكية العريقة، لأقرأ، وأنهل مِمّا يقع عليه بصري المُتيقّظ، ولَامَسته أطراف أنامِلي المُتطفّلة: في مُختلف بُنود القراءة العامة المُتجدّدة، مع مَطلع كِلّ شمسٍ، في مُختلف فنون وسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة؛ وتحليل مُبادر، وترجمة ذاتية لنشرات الأدوية المرفقة، والتحدّيق المُتبصّر في صفحات لوحات الإعلانات التجارية المُعلّقة، التي تعجّ بأيقوناتها الملوّنة المُعلنة في شتّى جَنباتِ الشوراع، وسَائر المُنعطفات المُتاخِمة المُزدحمة، للطرق الرئيسة، المنافسة لعراقة سِيقان الأشجار الطويلة المُعمّرة، الجاثمة انتصابًا شامِخًا في أنحاء أرجاء المدينة الواسعة؛ لتشهد عَراقة المكان الزاهر؛ وتؤطّر - بجمال قديم حضورها المكاني الوارف، وإطلالتها البهية -“وَسامة”الزمان الحاضر… وفي ساعات مُتعة التّسوّق الجاذِب، في سُوح الأسواق التجارية الكبيرة؛ وفي فسِيح جَنبات مكتبة الجامعة الأنيقة المتّسعة المُتعددة الأدوار… ترانِي أتجوّل بحماسةٍ وإقدامٍ، بين رَدهات وزَوايا الصحف والجرائد المحليّة والعربية... حتى أدركت، ومَن حولي، زملائي الأماجد، بأنّي قارئًا شَغوفًا“ثمِلًا ”بالقراءة المُترددة الماتعة، في أجزاء موسوعة“الخُطب الخالدة - Imortal Speeches“ التي احتلّت حَيزًا معروفْا في إحدى أدوار المكتبة الجامعية العامة؛ والتي أنال منها مصلَ جُرعةِ بُغيتِي الفِكرية - برغبةٍ ذاتيةٍ - مِن صيدِ نِتاح خُلاصة أمصالِ عُقول صَفوةِ المفكّرين، وحِكمةِ رُوئ شفافية المنظّرين… وحتّى تطلّعات قادة السياسة المُبرّزين، السابقين والمعاصرين… وفي إحدى الأُمسِيات كنت مُنكبًا مُستغرقًا في قراءة إحدى الخُطب العصماء، بجزء مِن موسوعة الخُطب الخالدة لرئيس عربي معروفٍ، وقد تُرجمت - بكفاءةٍ وإتقانٍ - إلى الإنجليزية؛ وقد تّمّ الاحتفاء بمكانتها بين أترابها مٍن قوائم الخطب السياسية العصرية الموثّقة، آنذاك! ومَا إن أدرت برأسي، وإذا بأحد الدارسين مِن الزملاء السعوديين المُبتعثين، يغبطني على نهم القراءة المُتخصّصة، ولم يخطر بباله، بأنّ جُلّ ديمومة قراءاتي المُحبّبة، تصبّ في صَميم تخصّصِي الأكاديمي المُزدوج في «اللغة الإنجليزية، والاتّصال والخِطابة الجماهيرية».

هذا، وفي مَوقفٍ مُماثلٍ كان مصدرُ غِبطة زُملائي المُبتعثين الكرام المُتصاعد، ألَا وهو اهتمامي الحثيث بحضور الأمسيات الشعرية المُلقاة - باللغة الإنجليزية - على مَسرح ”الكولوسيوم“ الجاذب الفاخر بمبنى حلقة ”التواصل الاجتماعي“ بالجامعة؛ حيث كُنت أحرص باهتمام، بين الفينة والأخرى، على الحضور الشخصي المنُتظم أصالة؛ للاستماع والاستمتاع بسيلٍ جارفٍ مِن سَفطِ القصائدِ العصريةِ الرائعةِ… التي كُنت أغرق في بحُورها اللّجيّة المُتلاطِمة… بين خِضمّ عَصف شواطئ مدّ بحرين مُتجاورين هَائجين، في أجواف غَمر ثقافتين عريقتين: العربية والإنجليزية، إذ لّمست وظفرت آنذاك، بالكثير مِن أواصر جُسور التقارب الملموسة في مُعترك زِحام التأثيرات الأدبية العالمية الأُممية المُعاصرة، في طُول وعَرض بِساطٍ الأدب المُقارَن، في أزهَى وأحلَى حُلَلِه القشيبةٍ المُتجدّدةٍ البرّاقةٍ…! ومِمّا أتذكّره جيدًا، حُضوري أمسية شعرية عصماء، لشاعرة أمريكية، ذات البشرة السمراء، وقد أِعِدّت لتلك الأمسية المُرتقبة العُدّة الإعلامية، مِن النشرات الملوّنة الفاخرة، و”البوسترات“ الجاذبة، بترجمتها الذاتية؛ وتقديمها كشاعرة عصريّة مُفوّهة، ذات اللّقب الشعري المُدوّي، في طُول البلاد وعَرضها، المعروفة ”بالأميرة السمراء“ … ففي إحدى قصائدها الشعرية الجاذبة، مَا رّاقني ذِكره، وهي ”تغازل“ وتفتخر فيها بمدّ أيادي العون والمُساندة العربية في بناءٍ شطرٍ مِن حضارة الاقتصاد الأمريكي المُعاصِر... ووَصفتها باليد الرحيمة، المُتمثّلة نصًا، في إمدادات ”بترول العرب“ وأثره الفاعل في دعم وهيكَلة الاقتصاد الأمريكي الراهن… هذا ومَا إن اختُتِمت الأمسية الجميلة ذاتها، إلّا وقد أُعدّ للشاعرة المرموقة مَجلِسًا ”ملكيًا“ فخمًا، خارج القاعة، يُنبئ باحتفاءٍ وتقدير، عن أعجاب، وتشجيع الطبقة المُثقّفة، في المجتمع الغربي لفُنونِ الأدب المُعاصر، وتكريم رُوّاد رِئتي الأدب الفاخر، أينما حلّوا: الشّعراء المَرموقُون مِنهم، والكُتّاب المُبدعُون.

وقد أدركت وَاعيًا وقتئذٍ، أثناء دراستي في بلاد ”الغُربة“ كدارس للغة الانجليزية، كلغة ثانية، بأنّ دراسة واحتضان الكتب الجامعية المُقرّرة وحدها، ليست الوسيلة الوحيدة الكافية، في نهل، وإتقان، وإجادة تعلّم أساسيات لغة ثانية، والتمكّن الذاتي المؤهِل؛ لنيل وظيفة المستقبل واتخاذها مصدرًا وظِيفيًا لاكتساب المعاش، لَاحقًا… فسعيتُ بتامّلٍ، وطفِقتُ أتلمّس - بجدٍ واجتهادٍ - طَرائقَ ومَحاورَ مُساندةٍ مُعينةٍ لتعلّم اللغة؛ و”تدوير“، وتوسيع خيوط دائرة التعلم الذاتي الفعّال، بتغذيات راجعة، بين ظهراني مُتحدّثي اللغة الإنجليزية أنفسِهم، وكان مِنها: العناية ببناءِ نواةِ صداقةٍ وتواصلٍ، مع لفيفٍ مِن زملائي الدارسين باللغة الأم، في مختلف ”الكُورسات“ الدراسية، يُضاف إلى ذلك، فقد بذلت يد المساعدة لزملائي الدارسين السعوديين، مِمّن طلب مِنّي مُساعدته، في أساسيّات الكتابة الإنشائية، في مُختلف التخصّصات؛ وكَذا دوري الفاعل في كتابة الأبحاث المشتركة، في المشاريع المنهجية، بمعيّة طلاب الكورس الدراسي؛ ولَا أنسى انتهاجي كتابة الخاطرة القصيرة باللغتين: العربية والإنجليرية؛ وكذلك أمارس - بين الفَينة والاُخرى - هِواية الترجمة والنقل مِن وإلى اللغتين… وإضافة ذاتية إلى توسيع دائرة ذلك المنحى الإيجابي النشِط، قرّرت الانخراط المُبرمج في دراسة عددٍ مِن الكُورسات الاختيارية القصيرة، التي تطلقها الجامعة، مع بداية كلّ فصلٍ دراسي - على حِسابي الخاص - في مُختلف العلوم، والفنون، وسائر المعارف العملية المُفيدة المُعينة على شَحذ زِناد الطلاقة اللغوية؛ وزِيادة وتنمية المهارات الفنية، ذات بناء وصقل الخبرات والمهارات المستقبلية ”الناعمة“ النافعة، في مُعترك الحياة العملية مثل: كُورس في صِيانة السيارة، وآخر في أساسيات فنّ الكتابة؛ وثالث في الإسعافات الأولية؛ ورابع في فن الخط؛ وخامس في مهارات القراءة السريعة؛ وسادس في فن أساليب القيادة الوقائية للمركبات… ولَا غَرْوَ في ذلك، فقد أسّست رَصيدَا مَتينًا مِن شَتّى المعارف والعلوم؛ وكسبت رصيدًا مُماثلْا مِن نسق الخبرات المُوهِّلة، لبيئة العمل المستقبلية المُنتظرة…!

هذا، وممّا أفرغ مخزن زناد دائرة المسعى التوسعي الذاتي، بانتهاج طرائقَ وأساليبَ ذاتية عملية في اشباع رغبة التعلّم الفعّال، هو أنّه - ولَا فخر - انخراطي العملي في مُعترك العمل التربوي كمدرس، في المرحلتين الدراسيتين: الابتدائية والمتوسطة، لصالح وِزارة المعارف الجليلة، آنذاك لمدّة تَربو على عَقدٍ مِن الخبرة العملية المتواصلة، في السلك التربوي، قبل التحاقي بجامعة ”نورث تكساس الحكومية“ لأكمال مُتطلّبات الدراسة الأكاديمية… وهَكذا تمّت الأُمور على خَيرٍ، وطاب المَسعى المُبارك، وحَصل التوفِيق والنجاح المُسدّدين بمشِيئة ربّ العالمين… ومَا التوفيق المؤيّد المسدّد إلّا مِن عِند الله، وهُو مِن وراءِ القصدِ، وتحقيقِ الوعدِ… «وَأن لَّيسَ لِلإِنسَانٍ إلّا مَا سَعَى».

* سورة النجم- آية 39