آخر تحديث: 15 / 5 / 2024م - 8:45 ص

تأملات من وحى عاشوراء الخلود

عبد الفتاح أحمد العوض

لعاشوراء الحسين ولنهضته المباركة انعكاساتها العميقة وتأثيراتها الجوهرية التي تجاوزت حدود الزمان والمكان، ولا شك أن لهذا الوهج العاشورائي المتواصل بلا انقطاع منذ أكثر من 1400 سنة دوره البارز في مسيرة الإسلام الخالدة ورسالته العالمية، بل لا يمكن لأي منصف أن يحصر قضية عاشوراء وإشراقاتها ضمن حدود جغرافية أو دينية أو فكرية محددة. إنها ثورة ضد الظلم والطغيان والفساد غطت بعطائها وخيراتها الإنسانية جمعاء، وهذا ما يتضح جلياً من خلال صدى هذه الثورة وما حظيت به من تفاعل ليس له نظير من شتى أصناف البشر باختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم.

عاشوراء في الأساس هي ذكرى حزن وألم لفاجعةٍ لم يشهد لها التاريخ نظيراً، وهذا ربما أحد الأسرار وراء ديمومتها ووهجها الذي لم ولن ينطفيء مهما تقادمت الأيام والأعوام، وأثبتت الأزمنة المتعاقبة أن رسالة هذه الثورة الخالدة هي نشر المحبة والسلام والألفة بين الجميع على المستوى الإنساني مسلمين وغير مسلمين، سنةً وشيعة ومن كل الطوائف، لأن الحسين ليس إمام الشيعة فحسب، بل هو نبراسٌ لكل ثائر وكل إنسان حر. فتجد الكثير ممن كتب وألَّف في حق هذا الإمام العظيم هم من مشارب فكرية ودينية من خارج الإطار الشيعي والإسلامي، كما تجد أن في العديد من البلدان ومنها العراق التي منها انطلقت ثورة الحسين يشارك السنة والمسيحيون والصابئة وغيرهم إخوانهم الشيعة في إحياء هذه الذكرى الأليمة، في أجواءٍ متشحة بالحزن والسواد تسودها روح المحبة والأخوة والإيثار والتفاني في إيصال الرسالة والأهداف التي من أجلها ضحى سيد شباب أهل الجنة بنفسه وأهل بيته وأصحابه.

لا يمكن اعتبار فاجعة كربلاء حدثاً عادياً ومعركةً كغيرها مما شهده التاريخ المليء بالمآسي والحروب، فما حدث فيها من فظائع وجرائم ضد العترة النبوية الطاهرة بعد فترة زمنية قصيرة نسبياً من عروج النبي للملكوت الأعلى لا يمكن مقارنتها بأي مأساة أخرى. ومن أغرب الأمور المحيرة للعقول أن الطغمة اليزيدية وزمرتهم الأموية تمكنت من تجييش شرذمة ضلت طريقها ممن يدَّعون انتسابهم لأمة نبي الرحمة لمحاربة ابن بنت نبيها، فوجَّهت هذه الفئة الباغية المنحرفة سهام أحقادها وأظهرت عداوتها ضد سبط نبيها وامام زمانها وسفينة نجاتها لاجتثاث عترة النبي وابادتها، حتى أن الطبري في الجزء الرابع من تاريخه أشار لهذا المعنى عندما روى عن شبث ابن ربعي وهو كما لا يخفى أحد قادة الجيش الأموي في معركة كربلاء أنه قال: ”ألا تعجبون أنَّا قاتلنا مع علي بن أبي طالب ومع ابنه من بعده آل أبي سفيان خمس سنين، ثم عَدَونا على ابنه وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية!“.

تُمثل نهضة الإمام الحسين وشهادته المباركة رمزاً لكل الأحرار في العالم، وشعلةً رفعتها أكف الثوار في شرق الأرض وغربها، فانطلقت الثورات المتوالية بعد برهةٍ قصيرة من الفاجعة بدءاً من وقعة الحرَّة وثورة التوّابين مروراً بحركة المختار الثقفي فثورة الشهيد زيد ابن علي ابن الحسين وحتى ثورة أبي مسلم الخراساني التي قضت على الدولة الأموية. وفي العصور الحديثة لا يمكن أن نتجاهل ما نُسب إلى مُحرر الهند وزعيمها الروحي غاندي الذي قال: «لقد طالعت بدقّة حياة الإمام الحسين، شهيد الإسلام الكبير، ودقّقت النظر في صفحات كربلاء واتّضح لي أنّ الهند إذا أرادت إحراز النصر، فلا بدّ لها من اقتفاء سيرة الإمام الحسين»، وقولته الشهيرة: «تعلّمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر». وفي ايران اشتعلت ثورة بقيادة جمع من علماء الدين زلزلت أركان الحكم الملكي البهلوي رافعةً شعارات كربلائية حسينية، وكان لروح الله مفجر الثورة وقائدها قولته الشهيرة: «كل ما لدينا من كربلاء». بالإضافة إلى المئات من حركات التحرر والبطولات التي سطرها ثلةٌ من المجاهدين هنا وهناك ضد الاحتلال الإسرائيلي والإرهاب الداعشي رافعين شعارات: «لبيك يا حسين» و«هيهات منا الذلة».

تتجلى أبهى صور الجاذبية الحسينية في الحضور الجماهيري المليوني لإحياء أيام عاشوراء في كل بقعةٍ من بقاع الأرض، فتجد حضوراً كثيفاً للمؤمنين المحبين صغاراً، شيباً وشباباً، نساءً ورجالاً في كل مأتم وفي كل مجلس تُقام فيه ذكرى الحسين وواقعة الطف الأليمة، حتى أضحت الحسينيات بتوفيق الله وببركة الحسين مراكز إشعاع امتدت خيراتها على سكان العالم قاطبةً، وهذا ما يُقر به المخالفون والمؤالفون على حدٍ سواء، حتى أن بعض المنصفين من الطوائف الأخرى يحسدوننا على هذه النعمة، فلا يوجد على وجه الأرض من استطاع أن يأخذ بشغاف القلوب ويدفع هذه الحشود المليونية للحضور والتفاعل بحماسةٍ مع تلك الفعاليات سوا الحسين ابن علي.

يُعتبر المنبر الحسيني أحد أهم وسيلة إعلامية يتم فيها نشر علوم وفكر أهل البيت ، ويمكننا أن نقول وبدون تردد أن المنبر الحسيني يُعد الزاد والمنبع الرئيسي والأهم لكل شيعي على وجه الأرض، وأن كثيراً من المثقفين الشيعة هم في الحقيقة صنائع لهذا المنبر الذي لا يمكن أن يُنكر دوره، ولهذا المنبر دور كبير في إبقاء قضية الإمام الحسين حيةً راسخةً في ذاكرة الأجيال، ويتربى النشء تحت هذا المنبر على التربية الإسلامية الصحيحة، ويتغذون فيها عقائدياً وفكرياً وثقافياً، ويستلهم الجميع من سيرة الإمام الحسين وقضيته العادلة على مدى العصور معاني التضحيةِ والوفاء والإخلاص والصدق والشجاعة والإيثار وكل المفاهيم السامية.

تعرضت قضية عاشوراء وأبنائها البررة ومجالسها ومواكبها للكثير من الهجمات بالعنف والإرهاب تارةً من بعض حكام الجور ومن الزُمر التكفيرية والمتطرفة، وبالحروب النفسية والإرهاب الفكري تارةً أخرى، بهدف تشويه الصورة الناصعة لهذه القضية الملتهبة، ولزعزعة الارتباط الوثيق بينها وبين والمؤمنين بمبادئها لصدهم عنها واطفاء أنوارها المتقدة في عقولهم وقلوبهم. ولكن أنَّى لهم والوصول لأهدافهم المريضة فقد شاءت الحكمة الإلهية أن تبقى ملحمة عاشوراء الخالدة شعلةً لا تنطفئ، لأن بقائها يعني بقاء الدين المحمدي الأصيل، فالإسلام محمدي الوجود وحسيني البقاء.

من ضمن ما يتردد على ألسنة بعض المناوئين عمداً أو جهلاً أن هذه الجموع الحسينية المليونية التي ترفع شعار «يا لثارات الحسين» تدعوا للثأر من أهل السنة لمقتل الحسين! فهل الطلب بالثأر للحسين من قتلته يعني إعلان الحرب على إخوة لنا في الدين تربط الكثير منهم بالحسين ما تربطنا به، فنحن نؤمن أن الحسين لجميع المسلمين بل لكل إنسان حرٍ شريف. فيجب التحذير من هذه الدعوات المشبوهة لدعاة الفتنة وألسنة الإرهاب التي تريد شق عصا المسلمين باختلاق هذه الأكاذيب. الحسين يوحدنا ولا يفرقنا وذكرى مصيبته تدمي قلب كل مسلم يشهد بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن الحسين سبط رسول الله وريحانته وحبيبه.

إنَّ شرف خدمة أبي عبدالله الحسين هي من أجَّلِ الأعمال التي تقربنا إلى الله عزَّ وجل، وإنَّ جزاء هذا العمل المبارك لا يُعد ولا يُحصى بمقاييسنا الدنيوية، كما أنَّ كلَّ عملٍ صالحٍ معرض للقبول أو الرد إلا العمل في خدمة الحسين فإنه مقبولٌ إن شاء الله. لذلك ينبغي احترام وتقدير كل الخطباء والباذلين والكادحين في خدمة الإمام الحسين في كافة المجالات بتفاوت مستوياتهم ورؤاهم وتوجهاتهم، والتنوع في مستوى الأداء والأسلوب والمواضيع التي تُطرح كلها تتواءم مع تنوع الحضور ومستوياتهم وتوجهاتهم، فمن يميل للأطروحات والأبحاث الفكرية والعقائدية العميقة يجد مبتغاه، ومن يريد الاستماع إلى المنابر التقليدية التي تطرح السيرة الحسينية وتستدر الدمعة بالنواعي المفجعة يجد مبتغاه، والكل مأجورٌ وثوابه كبير إن شاء الله بقدر نيته ومحبته للحسين .

ينبري بعض الموالين بحسن نية خاصةً في أيام عاشوراء لإذكاء بعض المواضيع الخلافية وإثارة الجدل في الوسط الشيعي حول بعض الممارسات المختلف في تقييمها، والأجدر بنا كمحبين أن نضع اسم الحسين نصب أعيننا ونترك كل ما من شأنه توتير الأجواء في هذه الأيام الأليمة، وهذه ليست دعوة لتكميم الأفواه بل لضبطها وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، وترك مناقشة هذه المواضيع لأهلها في الأروقة العلمية والحوزوية، وذلك حرصاً على صفاء القلوب وتوحدها وتكاتفها في سبيل إعلاء كلمة الحق ونشر المبادئ والقيم التي بذل الحسين نفسه من أجلها، ومن أجل الحفاظ على دين جده المصطفى والإصلاح في أمته وتقويمها، فلا نجاة ولا حياة إلا بالتمسك بحبل الحسين والأئمة الطاهرين الذين جعل الله طاعتهم نظاماً للملة، وإمامتهم أماناً من الفرقة.