آخر تحديث: 26 / 4 / 2024م - 2:42 م

التصحر الفكري والثقافي‎‎

السيد فاضل علوي آل درويش

يتخذ البعض من مفردة ومفهوم الثقافة والتثقف موقفا سلبيا ولا يستسيغ تناولها فضلا عن تطبيقها، وذلك أنه يراها صورة لذلك الشخص الذي يحشو عقله بمخزون من المعلومات التي لا تلامس مطلقا وجوده أو طريقة إدارة حياته وعلاقاته، فالثقافة عنده ترف فكري غير مستعد لتضييع وقته فيما لا يرجى منه فائدة عملية، فالثقافة عنده لفئة مخصوصة من الناس تمارس القراءة وتبادل الأفكار وإثارة الحوارات في مواضيع لا تهمه ولا تمثل له أي قيمة.

وهذه الفكرة الخاطئة حول مفهوم القافة وغياب تصور لدورها في تنمية المدارك العقلية وتوظيفها لإدارة دفة الأمور وفق الحكمة والمنطق، هو أحد عوامل العزوف عند الشباب عن المطالعة والمباحثة القيمة القائمة على تبادل الأفكار ومناقشتها، وصولا إلى بلورتها على شكل ومضات نورانية تضيء له دربه في الحياة وتجنبه الحيرة والتهور والانقياد الأعمى.

العامل الآخر هو غياب مفهوم وتطبيق الثقافة من التربية الأسرية، وذلك لعدم تقدير دورها المحوري والأساسي في ترتيب أوراق الفرد في الحياة وهندسة شخصيته وفق دعائم القوة والتكامل والتحلي بالهمة العالية، فكثير من المشاكل التي يعاني منها الأبناء اليوم على المستوى النفسي والاجتماعي والسلوكي مرده إلى خروجهم إلى ميادين الحياة وهم كالطير الذي لما ينبت الريش على بدنه ولذا لا يقوى على الطيران فلا يقدر على جلب قوته ولا دفع خطر المفترسين المتربصين به، فمقومات الشخصية القوية للشاب تعتمد على ثقته بنفسه وقدراته اللغوية والفكرية والاجتماعية لإقامة علاقات اجتماعية ناجحة والأسرية مستقبلا، وهذه العلاقات لها مسارها الإيجابي المعتمد على الاحترام والتفاهم وحسن الظن وغيرها، وكذلك بالنسبة إلى التخطيط لمستقبله ورسم أهدافه الحياتية والدراسية والوظيفية يتشكل من خلال تصورات ونظرات تسلط على قدراته من جهة وعلى الفرص الموجودة على أرض الواقع وما يستطيع بلورتها وصنعها بعد ذلك، وكذلك بالنسبة لخلق الروح التي تحمل معالم الصبر والهمة ومواجهة التحديات وحلحلة الصعوبات وحل المشاكل التي يمر بها بأقل الخسائر وبما تقدمه له من مخارج ممكنة، فكل هذه الزوايا في حياته «القدرات - العلاقات - تخطيط المستقبل - مواجهة التحديات والأزمات» تتكون وتتبلور وتنمو من خلال ما يمتلكه الفرد من اطلاع ومعرفة في حقول العلم المتنوعة، فالعقل المتحجر أو المتبلد أو المغلف بالجهل هو نتاج التصحر الثقافي وعدم سكب معين المعارف عليه لترويه، فهذا القرآن الكريم يرشدنا إلى أن الإنسان يمتلك كنزا غاليا لا يقدر بثمن وهو عقله المقوم لكرامته وتكامله وتألقه، وهذا العقل مجموعة إدراكات تنير للمرء دربه وتكشف له الحقائق وتدله على المفاهيم المنطقية وتقدم له مجموعة من الخبرات والتجارب التي تنضج شخصيته، ومتى ما حرم من المعارف فإنه يكون كالبيت المهجور المتساقطة أجزاؤه الذي لا يوفر مقومات السكن الهانيء فيغدو لا فائدة منه، ويصاب صاحبه بالضياع في مواقفه وعلاقته لأنه يتعامل بجهالة مع الأمور، بينما الإنسان الناجح يختزن في عقله المعرفي والثقافي أدوات التعامل مع المواقف والحوارات والأزمات فيخرج لها ما يناسبها وما يجنبه الضرر والخسارة.

وما يعاني منه كيان الأسرة من أزمات خانقة قد استفحلت وتحولت إلى عوامل للطلاق والفرقة تعود في مجملها إلى غياب ثقافة التعامل الراقي مع شريك الحياة في آماله وطموحاته وهمومه، وكذلك بالنسبة للعلاقة مع الأبناء الذين تهاجمهم فيروسات تغزو أفكارهم وسلوكياته، إذ لو كان الشاب والفتاة يمتلك مقومات التعامل الأخلاقي والاجتماعي والنفسي الذي توفره له التنمية الثقافية لاستطاعوا تجاوز الكثير من الأزمات والمشاكل التي تعصف بالبنية الأسرية والمجتمعية.

الثقافة تنمي مدركات العقل وتنضج طريقة تفكيره وتهذب سلوكياته وترتقي بعلاقاته المتنوعة، وهذا ما يدعونا إلى إيجاد المكاتب والكتب المقيدة لتكون الزاد للشباب، كما يجب تقديم المحفزات والوسائل والآليات المشجعة على تكوين الفكر الناضج.