آخر تحديث: 18 / 5 / 2024م - 1:23 ص

ما بعد الصفعة

التعامل بوضوح وصدق وأمانة مع الآخرين من أهم أسس العلاقات الاجتماعية الناجحة والفاعلة، وذلك أن انبثاق حالة الانسجام وتبادل الاحترام والتعاون مرده تكوين الثقة بالآخر والاطمئنان لمواقفه البعيدة عن الضبابية والتلون والخداع، ومتى ما استشعر الفرد بأن الآخر له وجهان يتعامل بهما ولسانان يتحدث بهما، وبالتأكيد فكلاهما لا يعبر عما بدواخله من قناعات، بل يعمد البعض لمثل هذا الخداع من باب التحدث والتصرف بما ينال رضا الطرف الآخر وإن كان ذلك بخلاف ما يعتقد، فالإطار المجتمعي في بعض أعرافه وتوجهاته لا يؤمن بها هذا الفرد ولكنه لا يستطيع التصريح بذلك لخبث سريرته، فيجامل ويظهر بخلاف مبتنياته من أجل عدم الدخول في صراعات وخلافات تصدع رأسه بزعمه، فما يحركه هو مصالحه وحمايتها فيسوقه الحفاظ عليها بكل اتجاه وبكل لون.

لا يمكننا القول أن مجتمعا من المجتمعات يخلو من التباينات والاختلافات في الشخصيات وما يحملونه من قيم ومصالح وتصورات واتجاهات، وعلى الإنسان العاقل أن يضع لنفسه معايير يزن من خلالها علاقاته واختياراته، وهذا لا يعني عدم الوقوع في فخ بعض المخادعين ممن يتقنون فنون العذب من الكلام والتزلف وإظهار الود المصطنع، ولكن هذه المعايير تخفف من سقطاتنا وخداعنا ويجنبنا الصدمات العاطفية والأزمات.

يدور في الذهن سؤال مهم يتعلق بمثل هذه المواقف التي نشعر فيها بتخاذل الآخر أو خداعه ووقوعنا في فخ قد تم نصبه بإحكام قد غطاه صاحبه بوجه مستعار يلبسه ويخفي خلفه وجهه الحقيقي، ولكن أين يكمن موضع الخطأ ويتعلق بنا وبطيبتنا الزائدة وتعاملنا فوق الرائع مع الجميع أم أنه استغلال المخادعين وقوة حبكهم لفخاخهم؟

هناك مقولة مشهورة: كل يرى الناس بعين طبعه»، بمعنى أن حسن الظن بالآخرين والتعامل معهم وفق رؤيتهم بأنهم بعيدون عن الكذب والنفاق، وهذا العالم المحيط بنا نتعامل قيه بالبساطة والعفوية يفهمه أهل الطيب بأنه من سمات الأخلاق الرفيعة وبياض القلب ونقائه، وأما المخادعون فيرون في ذلك الطيب فريسة سهلة تقع في مصيدتهم بعد فترة بلا حراك، وقد يكون وقوع هذا الإنسان الطيب في المصيدة له ردة فعل عنيفة تتصف بتغير وتبدل التعامل مع الآخرين بلا استثناء، وكمثال واضح في مجتمعنا نجد الكفالات المالية والقروض غير الموثقة بورقة دين، هي من الموارد الواضحة لاستغلال طيبة الخيرين وخداعهم والاستيلاء على جزء من أموالهم بمثل هذه التعاملات، وبعدها نجد بعض الطيبين يعلنها بكل صراحة: «أهل الحرام ما أبقوا لأهل الخير شيئا»، فهذه القضية وهي مغافلة الطيبين وخداعهم في القضايا المالية من أوضح الظواهر التي يلمسها أفراد المجتمع وعدد ليس بالقليل هم ممن اكتوى بلهيب نارها.

وليس هناك من اختلاف حول وجود ردة فعل على الوقوع في فخ أحد المخادعين وإعادة الحسابات والوقوف على أوجه الخطأ ومكامن الضعف التي استغلها ذلك الانتهازي، بل يعد هذا من صفات أهل العقل الراجح الذين يفطنون للمكر ويأخذون في حسبانهم عدم السقوط مجددا في نفس الخدعة، وإنما الاختلاف حول تطاول ردة الفعل وخروجها عن إطار العقل والأخلاق، وذلك بتحول ذلك الإنسان الطيب إلى موجود يتخلى عن القيم التي يؤمن بها، ويتحول إلى شخص يفتقد الإحساس بآلام الآخرين ولا يتفاعل معها ويمتنع عن مد يد العون والمساعدة لمن يناشده، وهذا يسمى بمقابلة الخطأ بخطأ آخر مخالف له ولكن النتيجة فقدان كلا الطرفين للوجه الجميل من الإنسانية وهو الصدق والمشاعر الصادقة.

طريقة التفكير الصائبة تملي علينا الحذر ثم الحذر من أولئك المخادعين وتجنب الانزلاق والسقوط في فخاخهم، ولكن مع الاحتفاظ بالوجه الجمالي في شخصياتنا فنبقى كالزهرة ذات العطر الفواح يشمها كل من اقترب منها مهما كان فكره وسلوكه فهو أمر خاص به، والخداع قناع مزيف لابد له من السقوط أمام المواقف التي تعد محكا حقيقيا لاكتشاف الشخصيات لا المعسول من الكلمات، فمن حقنا تصفح الوجوه بحسب المعايير التي وضعناها لتسقط الأقنعة عن البعض، فوقت حاجتك لمن يساندك سيتقدم الصديق الحقيقي مادا يديه إليك وسينزوي الأفاك المخادع وتأخذه الريح بعيدا عنك بعد ذلك.